07 May
07May

الفن واليومي

- من ثقافة المعيش إلى استيطيقا التعايش-

الحلقة الثانية من حديث الأربعاء: إستئناف أسئلة الأستاذ حمادي حميد الفلسفية

د.بن يـمينة كريم محمد

[أستاذ محاضر -أ-، باحث في الفلسفة، جامعة د.مولاي الطاهر، 

وعضو في مخبر تطوير للبحث في العلوم الإجتماعية والإنسانية، جامعة سعيدة.]


يَقوم "الفن" على استضافة "الفلسفة" في ملاطفة الوعي و موازنة العقل نحو فهم جمالي لعلاقة متناغمة بين "الفنان" و"الفيلسوف"، فحين يكون الفنان محبًّا [صديقًا] للفلسفة، فإنه يسعى إلى توظيف المفاهيم ونقل المعرفة من التفكير المجرد إلى الممارسة الفنية بعمق [الجليل] ورقة [الجميل] ودقة [المنتظم]، فتجد الحكمة طريقا إلى أعماله والجمال سبيلا إلى وجدانه، بينما حين يستقل الفيلسوف عن الفن فلن يحصل إلا على تاريخية بائسة وثقافة يائسة، يكاد ينحصر وعيه الفني ضمن الأعلام والأحداث، دون بعمق إلى الأعمال الفنية، ودون احترافية لطبيعة "العمل الفني" في متابعة المعيش ومشاركة "اليومي".

تُشكل "الثقافة" مدخلاً جماليًا لاستنطاق "الحياة اليومية" في تتبع تشكلاتها وتمظهراتها، فالثقافة سبيل لتأسيس المعرفة العملية في فك تعقيدات الحياة اليومية وترميزات الإنسان الراهن، متخذة من "الاستطيقا" و"تطبيقات الفن" تمثلات متفاوتة لتشكيل المعيش وتأويل الجمال، وهذا ما يتطلب السعي العلمي في استثارة الإشكاليات الآتية: كيف نستحضر الفن في حياتنا اليومية؟ وكيف نتحسس [نتذوق] الجمال ضمن أدبيات المعيش اليومي؟ وكيف نؤسس لطبيعة فنية تقبل التطبيقات الجماليات؟ وكيف نستثمر في الاستطيقي قصد إنتاج ثقافة التعايش مع الآخر؟


أولا: فلسفة الفن وجماليات الحياة [العيش مقابل التذوق]:

يَتداخل "الفن" مع "الجمال" في ترسيم المشهد اليومي والتعبير عن الواقع بكل إبداعية وعبقرية وشاعرية ووجدانية، فحين ننظم الأشياء [الترتيب Arrangement]، فإننا نعلن اهتمامنا بالتفاصيل، من خلال السعي لإعادة ضبط العناصر والمكونات والعلاقات، وتوظيف الأدوات وبذلك نعطي شكلاً مغايرا لأحادية الراهن من زاوية مختلفة تستدعي قراءة [تأويلا مغايرا] متخصصة، و مقاربة [فهما متعاليا] قريبة، فبين الفن والجمال تتجلى مقاربات من التحويل والارتقاء، إذ يسهم الفن في إعادة إنتاج الجمال بشكل حِرفي [صنعة] Craft، واحترافي [تخصص] Professional عن طريق المعرفة والمعاودة والاستدامة والبحث والتجربة والفيض الفني، فيضف الفن بذلك لمسات جمالية تزيد من وضوح المشهد وتمظهر الصورة والتي لم تحظ بفرص البيان والتبيين نظرا للتخوم [≠الإطناب] والبلاغة [≠المبالغة] والآلية [≠التكرار] الملاصقة للمشهد، فعلاقة الفن بالحياة يختلف حسب المعطى الجمالي المقصود من وراء معاينة العمل الفني، فلا نجد اتفاقًا بين الناس وحتى المختصين في تحديد ماهيات الجمال مثلما لا يهمنا ذلك، فالجمال شامل وكلي ومطلق وذاتي وشخصي، وما يعنينا هو "الذوق الفني" القائم على اعتبارات شخصية واهتمامات فردية، مثل: الملكة الفطرية والحاسة الفنية، وسلامة الحواس، وصدق المعرفة الفنية، إذ يشكل التذوق الفهم الدقيق للعناصر الفنية القائمة على توافر الخبرة التأملية والجمالية، والاستجابة الوجدانية، وتقدير للعمل الفني، وأسلوبا للعيش بجمالية وحرية وبلاغية، تستمد الحياة قيمتها من خلال استحضار الجميل، والعيش في كنف الجمال والشعور بها وتذوقه، فكل عمل فني يحمل قصة ودلالة وشخوصا تتجاوز الجمال نفسه، إذ تحمل اللوحة الزيتية دلالة تاريخية وحتى تقديرا ماديا وماليا، فالمتلقي حين يقف أمام التحفة الفنية فإنه يستعيد [يسترجع] مختلف العناصر التاريخية [Historical] والأدبية [Literary] والفنية [Artistic] وليس مجرد فكرة جمالية، مما يتطلب الأمر توافر ثقافة عميقة ونوعية عن المشهد الفني في عمقه ودقته وتناصه وانزياحه وبلاغته وتداوليته.

ثانيا: الفن وثقافة الراهن [التفكير الاستطيقي في المعيش]:

لا يمكن تصور حياة بلا ثقافة، كما يتعذر إيجاد فن بلا ثقافة، وإذا تم تذوق جمالية بمعزل عن ثقافتها، فهي شكل من التحسس العابر بلا هوية ولا لغة ولا مرجعية، فلا تنحصر الثقافة في الفعل والإنجاز بل في الحمولة التاريخية والأدبية والفنية والإنسانية التي تتبع العمل الفني في عمومه [ثقافة الإنسان] وخصوصه [ثقافة الفنان].

يعتبر الاشتغال الفلسفي على المسائل الجمالية والفنية تفكيرًا استطيقيا بامتياز، فحين ننتقد الواقع فإننا نبحث فيه عن ثقافة الجمال من حيث حضورها أو غيابها، فالحكم على الراهن هو بالدرجة الأولى نقد فني لجماليات المعيش، فالنقد الفني هو في الأصل ثقافة مكتسبة بخبرات وتجارب مستوحاة من البيئة الجمالية التي ينشأ فيها الفنان أو يترعرع فيها الإنسان العادي حتى يستطيع أن يستمد تلك التخوم المعرفية ويبلغ العرفانية في فهم الجمالية.

يتخذ "التفكير الجمالي" من المعيش مناسبة للتعبير [رسم، تمثيل، غناء ...] فهو تارة يحوِّل الراهن إلى موضوع للممارسة الفنية، وفي أحيان أخرى يستخدم أدوات وآليات ووسائل العيش ومواد المعيش [أخشاب، أحجاز، أعود ثقاب، أوراق، ألوان ...] لينتج منها التحف الفنية، سواءً باستخدامها كمواد أولية [ريشة، صوت، ناي، كرسي، طاولة، إناء ...] كما أنه يعيد الرسكلة Recycle والتحوير Modulation أو التعديل Adjustment أو التغيير Change إلى إبداع فني راق وأنيق ودقيق، حيث يُحضر الفنان مجموعة من الأشياء العادية وقد تكون غير صالحة لاستخدامات الحياة وينتج منها تحفة غير عادية، وهنا تظهر العبقرية في تحقيق الإبداعية بأقل شيئية ممكنة في العملية الفنية .. وقد يُقاس احتراف الفن انطلاقا من قدرة الفنان على تطويع الواقع لصناعة مستويات متفاوتة ومستدامة من الجماليات.

تُعبِّر الأشياء حسب بيئتها وتاريخها ومكانها عن الكثير من الأفكار والرموز والإشارات، فقد تعني في مثل: (العين=الموت)، مثلما تعني في وقت آخر أو ثقافة أخرى مدلولا مختلفا (العين=الحياة)، (العين=المستقبل)، (العين=الحسد)، (العين=الرعاية) لذا تتطلب فلسفة الفن معرفة بتاريخ الأشياء وثقافات الشعوب حتى يتسنى للتلقي فهم التحفة والتمتع بدلالاتها من خلال ردها إلى واقعها الذي أنتجت فيها، فالشيء لا يحمل دلالة مباشرة في الفن، ولا حتى في الجماليات، بل قد يحمل مغزى غير مباشر يتطلب الحذر أثناء التماهي [التحاكي] معه.

ثالثا: الفن وفلسفة اليومي [تطبيقات الفن في الحياة اليومية]:

إذا كانت "الفلسفة" تهتم بالإنسان في حياته وما بعدها، فإن "اليومي" يقتصر على المشهد [الحدث] بما يحمله من أسباب وتبعات وما يتركه من أثر وتأثير، هذه الحركية التي تستمر في كل زمن ولا تتوقف، و مع تحضر مع كل مكانية ومناسبة، فوظيفة الفلسفة هي مواكبة اليومي بكل تفاصيله وتفصيلاته وعناصره وأوقاته ومرافقة الحدث والمناسبات، كما أن مهمة الفلسفة هي فصل اليومي عن المعيش والارتقاء به إلى التفكير والفهم والتحليل والنقد، ففلسفة اليومي تعني إعادة النظر في الأصل والبحث بحفرية عن القوى والمنظومات التي تحرك الفعل وتتسبب في حدوث الأشياء والكشف عن العلاقات الكبرى [التأصيل، التأسيس، المرافقة] قصد إعادة تشكيل النفعية بما ينسجم مع الفنية والجمالية بما يخدم إنسانية الفعل وأنسنة الفكر.

وحين نتحدث عن اليومي فإننا نستحضر تلك الممارسات اليومية التي تتداخل مع الفن والجمال، فلا يخلو يوم من جمالية، كما لا تنعقد جمالية ما بمعزل عن إشارات وإنشادات اليومي، فعلاقة "الحياة اليومية" بـ "النظرية" و"الممارسة" تتجاوز ثنائية الحضور والغياب، وهذا ما يظهر من خلال علاقات الناس فيما بينهم، وكذا مع بقية الموجودات، مما يتطلب إيجاد معابر فنية لتحقيق "التعايش" بجمالية بعد تحقق العيش باكتمال لا بكمالية.

يُمثل "الدرس الفلسفي" نزوعًا شاملاً وتطبيقًا امبريقيًا يتطلب توظيف مختلف العناصر المعرفية والمفاهيمية والنصية وبالأخص ما يرتبط بموضوعات الفنون والجماليات، فمن غير المعقول أن يعتمد مدرس فلسفة الفنون على تاريخ أفكار الفن والمدارس والأعلام دون أن يستند على الاشكالات والموضوعات الرئيسة، ودون أن يناقش طلبته جماليات العمل الفني [مقطوعات موسيقية، لوحات فنية، عروض مسرحية]، وبذلك يفيد اليومي في بلورة الدرس الفلسفي، وهي محاولة جادة لتطبيق التقنيات الفنية داخل الحصة بما ينسجم مع طبيعة التخصص وميل الإنسان للجمال وسعيه للحوار بكل محبة وحكمة وحجاجية وجمالية.

يَرتبط الفن بالحياة في كل عناصرها وتشكلاتها، فيسهم الفن في إخراج السلوكات السقيمة والسيئة والردئية للحياة اليومية من رتابة الحكي والسرد إلى تجليات من الجمال [استضافة الجميل] الراقي، بتفعيل الحواس [الرؤية، الشم، الذوق، اللمس، السمع]، وسلامة التجارب [الملاحظة، الافتراض، التجربة، الاستنتاج]، بأن يمتلك الإنسان قابلية التذوق في كل لحظة من حياته اليومية، وأن يحضر حواسه للاستجابة الجمالية في كل مناسبة، لذا تتطلب الممارسة الفنية سلامة العقل الفني من الفوضى وتنشيط الوعي الجمالي، لتحقيق الترتيب الجميل بكل سلاسة وتناغم بما يخدم حياة الإنسان ومستقبله.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة