15 Jun
15Jun


الفلسفة، اليومي والجميل


الأستاذة أمينة بن عودة، قسم الفلسفة، جامعة معسكر


الفلسفة ليست تفكيرا تنظيريا تجريديا يتعالى في حضرة المفاهيم ومقولات العقل الصارمة وحسب، بل هي أيضا وقصدا أسلوب حياة ونمط عيش تجعل المتفلسف يمارس فعل التفلسف ويقفز من مرحلة التحصيل المعرفي لما أورثه تاريخ الفلسفة من معارف نظرية لمشكلات فلسفية استدعتها ملكة الدهشة وتأثير استفزازات المألوف وغير المألوف من الأشياء والأحداث والطباع على حد سواء، ليتموقع بعد رحلة الاستكشاف للتاريخ الفلسفي في ساحة التفلسف وفضائه فعلى حسب كانط" أنا لا أعلمكم فلسفة الفلاسفة ولكني أعلمكم كيف تتفلسفون" وهنا يبدأ العقل في التفاعل والانفعال مع مجريات المعيش وتحولات الحياة وتلوناتها ليحدد موقفا خاصا به ويساهم في حل معضلات مستجدة بأدوات تراعي روح العصر فنحن لا نحارب جيوش اليوم أبدا بأسلحة الأمس. ممارسة فعل التفلسف وتعاطي مشكلات الحياة هو الحل الوحيد من أجل منح الفلسفة حضورا مؤثرا في عالم تغزوه التقنية وتستهويه الماديات.

المتفلسف وهو يحاول عيش الحياة ومساءلتها سوف يتذوق تجارب مختلفة: تجربة العقل المشكك، والروح العاطفية الأخلاقية وتجربة الحكم الجمالي. وهنا يصبح للفلسفة جمال الفسيفساء وألوان الطاووس. لتبدو تجربة الفلسفي والجميل أنقى وأرقى وأعمق التجارب المتضايفة حيث تمتزج الفكرة الحكيمة والعميقة مع الصورة الجميلة الإبداعية وفي ذلك مثال الأدب الفلسفي الذي يشكل اقترانا بديعا بين المعنى والمبنى، الفكرة والكلمة. فتحول مآسي العالم وآلامه إلى عمل إبداعي يؤرخ للحدث ويناقش استشكالاته ويحاول تقديم احتمالات ومقترحات حل المشكلات. ولن يكون ذلك إلا بالعيش في هذا العالم لا بالانعزال عنه  والتعالي عليه. فأن تعيش في العالم يجب أن تمكث فيه مطولا حسب قول جورج هانس غدمار وتتفاعل مع معطياته ومستحدثاته لا أن تنفصل عن تجاربه فتتحول إلى ذات مغتربة عنه. عقل الفيلسوف هو العقل الوحيد المتحرر الذي يمتلك حرية التفكير والتعبير والمساءلة والمحاسبة مشككا في الأسس والبديهيات ومجانسا بين المتناقضات التي تعتبر رحما خصبا للفكر الفلسفي.

لذلك قد تستوقفنا حالات ومواقف في الحياة يحولها العقل الفلسفي الإبداعي إلى مواضيع لتجسيد الجميل في فنون القول والفعل والحركة في لحظة انكشاف أقل ما يقال عنها أنها جمالية وإن انبثقت عن قبيح اليومي المعاش. وهذه تجربة خاصة أسوقها في محاولة لممارسة حق التفاعل مع الواقع والوقائع: من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وبالتحديد الفايسبوك استوقفتني صورة لقط يبدو منهكا متعبا لدرجة أنه لم يحرك ساكنا أمام كمية من السمك كانت ملقاة أمامه في حالة من تجسيد للامبالاة واللااهتمام والعبث وقد تقاطعت المشاعر حينذاك مع الذات المتلقية والموضوع لأستوحي منها فكرة "الانطفاء" فعلقت عليها من مأثور المثل الشعبي الذي يقول " جمرة وطفات" فكتبت هذه الخاطرة:

جمرة وانطفأت:

       "جمرة وطفات" تعبير يقال عندما تأخذك الحماسة وترتقي بك إلى قمة التّوق والشّوق والشغف والاشتياق إلى شيء ما، ثمّ تهوي بك إلى درك الركود والسكون المفرغ من الروح. حين تخبو نار التلّهف والرغبة بالشيء حد اللامبالاة واللااهتمام، إذ يحدث أن تريد الشيء بإلحاح وتعطّش ـ إلحاح المريد للكشف النوراني، وتعّطش العطشى لقطرة ماء ـ   ثم تتخذ كل السبل لنيله، بعد ذلك تسكنك حالة تجعل ذات الأمر دون قيمة حتى وهو أمامك، أمام ناظرك، حيث يعافه القلب ويزدريه ويقذفه في عالم المهملات، وكأنه لم يكن يوما ما محل رغبة تلبّستها رهبة مجرد التفكير في إمكان تحققه. إنه الوقوع في عالم اللاقيمة، اللاجدوى والعبث. 

حينذاك نقول "جمرة" اشتعلت واتّقدت إلى ذروتها من الرغبة ثم انطفأت، وكأنها ألقيت في ماء فسمعت لها زفيرا وتغيظا سلبها كل قوتها سلبا مستبدا واغتصابا مريعا، وبعد هنيهة لا تكاد تقاس لن تعد تصغي إلا لصوت السكون، إنها راحة، إنه التجّرد من أي هوية تستدعي منك مسؤولية ما، لا نار، لا حماسة، لا طلب الدفء، لا مبالاة. نعم إنها السكينة، لكنها سكينة المتخاذلين والجبناء وطمأنينة كاذبة للموت والعدم.

في عالم العدم لا من يطالبك أو يراقبك، يقيّم أفعالك أو يحاسبك. "جمرة وطفات"، لا إحساس، لا مسؤولية، لا شعور، لا ارتباك، قد انطفأت شعلة الرغبات ولم يتبق إلا رماد الأمنيات.

أيّتها الروح التي تجاهد في معارك هذه الحياة، كم أنت بائسة ومثيرة للشفقة، رغم أنك تستحقين وسام البطولة على معتركاتك الكثيرة، على انتصاراتك وانكساراتك، قفزاتك وعثراتك، إلا أنك تفتقدين للسلام وأنس الوئام أمام أنانية اللئام. ما كانت جمرتك لتنطفئ ولكانت اتّقدت أكثر لولا ذاك، لولا خذلان الآمال، ولولا رجاء النعيم والوقوع في الجحيم.

أعرف جيّدا أيتها الجمرة أنك لا محالة منطفئة، إنها سنة الحياة، لكنني كنت أرتجي منك حياة جديدة وروحا عنيدة وفي كل اللحظات وليدة، لا أن تكوني بتلك الذهنية البليدة تنتحرين غرقا خنقا وسط ما يفترض أنه أصل الحياة وسبب نموها، أم أنك لا تحسنين السباحة ضد التيار ؟. من الظلم أن نطالبك بما لا تستطيعين معه صبرا، وما إن حاريته عشتي ندما وقهرا.

عجبا لهذه الحياة ونواميسها، قطرة ماء قد تنعش الحياة وهي ذاتها يمكن أن تفنيها. ونقطة بخار قد ترطب أجواء الهواء، وهي ذاتها أيضا يمكن أن تنهيها.

أم أنك أيتها الجمرة مسكينة لا قدرة ولا طاقة لك، بل ولا إرادة ولا فعل لك، ولذلك قد اغتالوك وأعدموا فيك نبض الحياة وسلبوا منك سر الوجود، فانتفيت في ماءك دون رجعة. كان بإمكانك العودة من رمادك لكن هيهات وقد غرقتي بين عثرات وخيبات الخبرات. لك الله أيتها الجمرة فقدرته سبحانه تتلاشى عندها الحدود وتقفز خارج قوانين هذا الوجود، إنها علة إيجاد لكل ما هو في هذا الوجود غير موجود..فصبرا جميلا..      

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة