22 May
22May

الجزء الثاني: " نيتشه وبيزيه(Bizet)" 

 اقتدار الموسيقى الساخرة !

الأستاذ بن دوخة هشام، جامعة تلمسان

مخبر الفلسفة وتاريخ الزمن الحاضر، جامعة وهران2

" كما أن ما من موسيقى مذنبة إلا وهي بشعة، فإن كذلك ما من موسيقى " بريئة" إلا وهي جميلة" 

 (Aurore, aph(255).


إن محاولة إسترجاع براءة الموسيقى، سيجدها "نيتشه" لدى موسيقى "جورج بيزيه" (Georges Bizet)، إذ سيعثر في موسيقى هذا الأخير على الزخم(L’élan)، صنيع اللحن الحر تماما كما كان حال الموسيقى في ثقافة المأساة الإغريقية : <<أين أنا؟ ! يجعلني بيزيه خصبا (Fécond)، الجميل يجعلني دائما خصبا. إنه التقدير الوحيد والبرهان الوحيد الذي أملكه كي أحدد ماهو جيد1>>.

 إن هذا التحول الجذري لأذن "نيتشه" صوب موسيقى "بيزيه"، يتزامن هنا مع إلتقائه بثقافة جديدة كما أشرنا في مقالنا السالف حول: "البعد الجمالي لتجربة الجنوب"، مع ثقافة جديدة كذلك بدات تظهر، هي ثقافة الجنوب، ثم إن مشهد الجنوب (Paysage sud) لم يكن لغاية الشفاء من سقم الصحة بالنسبة  إلى "نيتشه" فحسب كما بينا ذلك آنفا، بل حسم أخير في الإختيار لصالح الكلاسيكية( classicisme) في مقابل الرومانسية.  

إن إكتشاف الفنون المرئية(les arts visuels) التي تزخر بها ثقافة الجنوب: الرسم والألوان2*، الموسيقى والذوق الجيد كشرط لفلسفة المستقبل، ثم الضحك (Le rire)، من أجل ذلك كان طلاق "نيتشه" فيما نعتقد ليس من الرومانسية فحسب، بل من الثقافة الألمانية برمتها:" في ألمانيا ينقص الرجل أحد أهم وسائل التربية: ضحك الرجال المتفوقين، إن هؤلاء لايضحكون في ألمانيا3" .

إن المقارنة بين "بارسيفال فاغنر"(Parsifal) و"كارمن بيزيه"، جعلت "نيتشه" ينتبه إلى أن الإبداع في ذو علاقة قوية بالثقافة التي يتأسس عليها، أي من خلال الفضاء الثقافي فقط(L’espace culturel)، يمكن تفسير الجيد والمنحط في الموسيقى. وقدرة الأذن على الإتصال بالمكان وبعده الثقافي بالغة الأهمية، لذلك إذا كانت "بارسيفال" قد إنتهت بتقديم نموذجا لموسيقى قائمة على مثال زهدي(Idéal ascétique)، فذلك فيما نعتقد لم يكن إلا إستجابة لمحددات ثقافة الشمال: المساء، الظلام، البومة، التشاؤم: <<إن النفور الألماني من الحياة يشبه الذبول في الشتاء، من دون أن ننسى الرائحة النتنة التي تنبعث من مواقد المساكن الألمانية(4les poeles dans les habitations allemandes)>>. 

لذلك فهو حين يمجد "بيزيه"، فإنه يمجد فيه قدرة اللحن على الإتصال بفاعلية الجنوب الحيوية. ولذلك أيضا لم يتردد "نيتشه" لحظة إنصاته لأول مرة "لكارمن" (Carmen) بوصفها بالعمل الفني الجميل، رغم أنه وقت سماعه لها لأول مرة، لم يكن يدري قط من يكون مؤلفها – بيزيه-، كما توضح الرسالة التي بعث بها مباشرة بعد إكتشافه "كارمن" إلى صديقه "بيتر غاست"(Peter Gast):<< آه ياصديقي ! أخيرا ظهور فن جميل من جديد، أوبرا لجورج بيزيه، من يكون ؟: كارمن (...) إبداع فرنسي أصيل للأوبرا الساخرة (opéra comique)  (...) يبدو أن الفرنسيين يسيرون على الطريق الأصح في ميدان الموسيقى الدراماتيكية (la musique dramatique) ، لقد إستبقوا الألمان بشكل لافت في هذه النقطة المهمة5...>>.  

وإن كان إكتشاف "كارمن بيزيه" متأخرا بالنسبة إلى "نيتشه"، كما يوحي إلى ذلك الرد الذي تلقاه من صديقه "غاست" والذي مفاده أن مؤلف "كارمن" توفي منذ ست سنوات (1875)، إلا أنه واصل إصراره على الإنصات إلى "كارمن" مرة أخرى:<<لقد كان نبأ موت بيزيه بالنسبة إلي ضربة موجعة للقلب، لقد إستمعت إلى كارمن للمرة الثانية، ومن جديد لازال نفس إنطباع المرة الأولى(...) روح محمسة ومغرية ! بالنسبة إلي، هذا الإبداع يستحق سفرا إلى إسبانيا- إنه إبداع جنوبي جدا (!une œuvre extremement méridionale6)>> ....  

إن الأولوية في تجربة الإنصات الجديدة "لكارمن- بيزيه"، تبين أن "نيتشه" إكتشف من خلالها على حد تعبير "ماتيو كسلر": >> جمالية أقل نفيا، هي جمالية الضحك7 (une esthétique moins négative << celle du rire). إنه الضحك التراجيدي(Le rire tragique) بعينه، الذي ينتصر على المعاناة في الحياة بالسخرية، إنه "ديونيزوس" الذي لاتستفزه مصائب الحياة وأهوالها بل تثيره على الضحك منها.

إن إختيار "كارمن"، مفاده عثور على نموذج البطل التراجيدي( Le Héro tragique)، نقيض البطل الرومانسي. فإذا كان هذا الأخير يعيش تجربة الحب بأن ينتهي دائما بالتمزق إلى حد الإنتحار من فرط طغيان صوت القلب والعاطفة، بأن لايقدر على مواصلة درب المحبين وينهي مشوار الحب الحافل بالمفارقات بالإستسلام، فإن البطل في "كارمن" مثل البطل في التراجيديا يعيش المأساة متمردا ضاحكا !. ذلك على الأقل ماعاشه البطل "دون جوزيه"(Don José) الذي أحب "كارمن"، لكنه لم يعش تجربة حبه هذه على مستوى العاطفة فحسب، بل حولها إلى تحدي(défi) أولم يخالف كل مألوف حين وصل به التحدي في الحب إلى حد قتل محبوبته "كارمن" بكل سخرية وإصرار8 !. 

إن هذا التحدي الساخر في تجربة الحب الجديدة الذي إكتسفه "نيتشه" في في الموسيقى الفرنسية مع "كارمن بيزيه"، وإن كان يحاكي إرادة البطل التراجيدي، إلا أنه يمكن أن يكون كما يبدو لنا إشادة أيضا إلى العبقرية(le génie)  في هذه الموسيقى، حيث لايشعر المحب (L’amant) بالمتعة إلا في الإستهزاء بل وفي تحدي شعور الحب ذاته !، تماما مثل حال "دون جوزي" في "كارمن" الذي تجاوز إنفعال الحب بشيء أعلى هو السخرية والتحدي:<<وأخيرا الحب، إسترجع الحب طبيعته الأصلية ! ليس حب فتاة نبيلة ! (Non pas l’amour d’une noble jeune fille) ليس حب الشعور العاطفي ! (senta sentimentale) لكن حب مصمم كقدر(comme Fatum)، كقضاء، حب ساخر، بريء، قاسي(...) يتجلى أكثر دقة في صيغته المرعبة من خلال آخر صيحة لدون جوزي الذي يختم المشهد: أنا الذي قتلتها، كارمن، كارمن معشوقتي ! >> .

ثمة محاولة في هذا اللحن الفرنسي كما لاحظ ذلك "نيتشه" ليس فقط بجعل ما يعيشه الإنسان من تجارب عميقة كالحب مثلا مجرد شعور، بل أكثر من ذلك بتحويل تلك التجارب إلى درب المتاهة (Labyrinthe)، ليس بالإستسلام أو بحب أعمى مثلا (amour passion) كما هو حال البطل في التجربة الرومانسية، وإنما بالإقبال وبالتحدي وبالإنتصار على الشعور، بل وبتجاوز صوت العاطفة بتحويل الذوق نحو الإنتصار، ذلك ما إنتقده "نيتشه" مرارا وتكرارا في الموسيقى الرومانسية وخاصة في لحن "فاغنر"، كونه لحنا يجسد ثقافة الإنهزام والسقوط، موسيقى لاتملك القدرة على الإنصات للإمكانات المفتوحة في تجربة الحياة. بينما هنا في موسيقى الظهيرة (musique de midi) ثمة ما يوحي بالقدرة على الإستماع لما في الوجود من متناقضات، لا براهفة الحس وإنما بمتعة القهر !، تلك هي بوادر المطرقة التي يهواها "نيتشه" والتي عثر فيما يبدو لنا على أثرها في موسيقى المتوسط، كونها مؤسسة على قدرة الذهاب إلى جوهر الحياة المتعدد الإمكانات!.


.----------------------------------------------

 

[1] - (Nietzsche (F), Le cas Wagner, op.cit, p.902, aph(1
[2] *- يتساؤل أستاذي الراحل حمادي حميد في مقاربته الفذة عن ماذا ياترى سيكون موقف "نيتشه" لو قدر له أن إلتقى بفن تشكيلي بعده هو "الإنطباعية"( L’impressionnisme) ؟، يقول أستاذي الراحل حميد حمادي: >> كيف كان يمكن أن يكون موقفه أمام فنان الإنطباعية؟، بعده بزمن قليل، أصبح التشكيل يخاطب الإنصات عن طريق فن متوسطي محب للإنطباع، لضوء الشمس، والواقع الحيوي. كيف كان يمكن أن يتصرف أمام لوحة من لوحات "مانيه (Manet) ذلك مايجعلنا نتساءل عن طبيعة الموسيقى والأبعاد التي يمكن أن يكون "نيتشه" قد فكر فيها...<<، حميد حمادي، التجربة الجمالية في الفكر الفلسفي "لفريدريك نيتشه"، مرجع سابق، ص.138.

[3] -(Nietzsche (F), Le gai savoir, op.cit, Livre troisième, p.148, aph (177
[4] - (Nietzsche (F), Le gai savoir, op.cit, Livre troisième, p.136, aph(134
[5] - Nietzsche (F), lettre à peter Gast, le 28 novembre 1881, In Nietzsche dernières lettres, op.cit, p79
[6] - Nietzsche (F), lettre à peter Gast, le 05 décembre 1881, In Nietzsche dernières lettres, op.cit, p.80
[7] -kessler (M), L’esthétique de Nietzsche, op.cit, « carmen, ou la catégorie du tragi-comique au terme du déKclin de l’esthétique négative », p.52
[8] - voir : Kessler (M), L’esthétique de Nietzsche, op.cit, p.52
[9] - Nietzsche(F), Le cas Wagner, op.cit, p.903, aph(2)

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة