20 May
20May

دهاليز نيتشوية 

نيتشه، حمادي وأنا...


  الأستاذ بودومة عبد القادر 

مخبر الفينومينولوجيا وتطبيقاتها

 جامعة تلمسان            

الجسد مربــــيا...

عندما يصير الجسد عقلا، فكرا، و روحا يهب لنا بحق تفكيرا مختلفا عن ذلك الذي ألفنا ممارسته، إنه نمط آخر مغاير  قائم بالأساس على  الـ  " كيف"   Le comment الكيف الذي يغدو من خلاله التفكير  تجريب و ليس مجرد تنظير.. لقد كان نيتشه من نوع الفيلسوف الذي يبتكر كيفيات عديدة لفهم العالم و الوجود ، التفكير تجريب يمكننا من التوجه رأسا نحو تجاوز ما استطعنا إلى ذلك سبيلا مرض الاعتقاد بالحقيقة، المرض الذي غرسته فينا المؤسسات الثقافية الرسمية. إن اللقاء مع شخص ما قد يكون حدثا لا متوقعا ، الواقع هو ما ينفلت عن التوقع ، هكذا بإمكان توصيف لقائي بـــــ "حمادي" ذات خريف من عام 1993، اللقاء الذي تحول إلى أفق للتفكير، كان بدء البدايات ، البدايات التي لا حد لها ، يحضر فيها محايثة  المشترك الذي لا يزال يجمعنا باستمرار، المتمثل في شخص "نيتشه".

 "حمادي" تجربة فكرية فريدة لم يكتب لها التحقق لأن موته جاء قبل الأوان، وضع كهذا ترك فينا حيرة البحث  داخل أعماق عمق "حمادي" الذي أعتقد أنه كان محكوما بمسألة فلسفية أساسية لا تزال مستعصية على كل تفكير و التي كان ( بوعي منه أو عن غير وعي )  يلمح إليها في كل مناسبة لقائي

به : كيف بإمكاننا نحن الباحثون أن ننجز قراءات و أن نضع كتابات نتجاوز من خلالها نيتشه ذاته ؟ بمعنى آخر كيف نتحرر من نيتشه ؟ و من تم كيف يكون بمقدورنا تحرير نيتشه من نيتشه نفسه دون التورط داخل وهم الـ "صنمية"من جهة و دون الانخراط من جهة أخرى داخل قراءات  كاريكاتورية لـــ"نيتشه" ؟ أمر كهذا يضعنا أمام اقتضاء السعي لأجل شق طرق أخرى لقراءة نيتشه.


الكتابة و ندرتها أو  في "رهاب" الكتابة...

كيف نؤول ندرة الكتابة التي ميزت حضور "حمادي" داخل المشهد الفلسفي عموما؟ هل بمقدورنا إيعاز هذا الوضع إلى نوع من الريبة و عدم الثقة في فعل الكتابة أم كان خوف منها جعله يتحذر من التورط بداخلها؟ "حمادي " لم يرفض الكتابة و إنما كان يرفض نوع من الكتابة شأنه في ذلك شأن "نيتشه" نفسه منها ، لم يكن لديه إلا كتابة واحدة ميزته و شكلت أصالته الفكرية الأمر يتعلق بكتابة الجسد، الكتابة التي كثيرا ما حظيت لدى نيتشه بالمكانة الأساسية في تجريبه للتفلسف.

 إن المتأمل إلى الكيفية التي كان يقدم من خلالها "حمادي "الدرس الفلسفي داخل الجامعة و كان يعرض من خلالها أفكاره يدرك أن كتابته لن تكون إلا كتابة الجسد، إذا أردت أن تعرفني يقول نيتشه أنظر إلى مشيتي، لا قيمة للكتابة يسلك صاحبها مسلك التخشب، و محكومة بالثقالة .

 مع نيتشه لم يعد الجسد عائقا بل صار شرطا أساسيا للمعرفة و للوجود، كل شيء صار يمر عبر الجسد و كل وعي أصبح بواسطته ممكنا.الجسد عقل هائل، تعددية ذات معنى واحد ، جسدك يقول نيتشه : " لا يقول أنا .إنما يصنع الأنا " إنه –أي الجسد- يهشّم صنميّة الكوجيطو مفضلا البدء بابتكار الأنا ، الإبتكار بما هو كَشْفُ كَشْفٍ ، توتولوجيا إنوجادية تحقق لنا غبطة المعرفة و مرحها.

نيتشه الظاهرة...

الظاهرة هنا ليست ما يظهر، ما يتمثل أمام أعيننا لبس الظهور و إنما ما يظهر ، ما يجيء إلى الظهور ، يصعب علينا من هذه الوضعية فهم تفكير "نيتشه" فإذا توجهنا رأسا إلى ما تركه من أثرŒuvre لا يمكننا البتة أن نستقر على قراءة واحدة له و هذا ما صيّر نيتشه في نظرنا ، ظاهرة تنفتح على إمعان النظر التجريبي و يمكننا بدوره من قراءة نيتشه ضد نيتشه . الــــ "ضد" هنا لا يحمل دلالة سلبية ، كأن نأخذ موقفا رافضا أو معاديا للفلسفات و بالأخص للميتافيزيقا التقليدية فالأمر لا يتعلق بالتجاوز dépassement أي بمغادرة نهائية و حاسمة لأرض الميتافيزيقا، و إنما يتعلق تحديدا بمغادرة تكون باستمرار مشدودة إلى العودة . مع نيتشه سنكون أمام مغادرة لبدء جديد للفلسفة ، مغادرة مرتبطة بحنين العودة لكن عودة تؤجل إلى ما لا نهاية تَحَقُقِها. من هذا المنطلق تولد تجربة فلسفية فريدة ، تجربة تحثنا دائما على الخروج شريطة ممارسة هذا الخروج من داخل الفلسفة ذاتها و ليس من خارجها أي محايثة للفلسفة لا مفارقة لها ، هذا ما نسميه بالتجريبية النتشوية.

إن نيتشه هو الفيلسوف الذي لا يمل من حث قراءه على مغادرته و على تجاوزه، فهو بقدر ما يدعونا إلى مصاحبته بقدر ما يلزمنا باقتضاء مغادرته ، ليس ثمة وفاء إلا بداخل الخيانة، لا أحد بإمكانه القول أنه نيتشويا . و لا أحد بإمكانه القول أنه ليس كذلك. نيتشه نفسه ليس بحاجة إلى صداقة قد تسحَبُنا إلى عداوة  و لم يكن  يأبه بعداوة قد تؤدي إلى صداقة .هذا ما صيّر نيتشه بالنسبة إلينا فيلسوف العزلة و الوحدة، يسعد باختفائه عن الأنظار و احتجابه عن الرؤية ،إنه بحق ظاهرة .

 

نيتشه  آخر...

" الذين سيولدون بعد وفاتهم - أنا مثلا- نفهمهم بأقل ممّا نفهم المعاصرين ،لكنّنا نستمع إليهم أفضل و لكي أعبر بأكثر دقة أضيف : لن يفهموننا أبدا - ومن هنا تأتي سلطتنا -" نيتشه(ف).

لا تزال تحوم حول نيتشه العديد من الأسئلة ، خاصة تلك التي تتصل بمشروعه الفلسفي، وضعية دعت الكثير من الفلاسفة اليوم إلى معاودة تأويل نيتشه لأجل فهم سليم لفكره ،طبعا لن يعرف هذا الهدف طريقه نحو التحقق إلا إذا تم التوجه رأسا بالنقد الجذري للقراءات الكاريكاتورية التي أساءت إلى نيتشه ذاته، قراءات شوهت و شوشت على فهمنا الملائم  لنيتشه الذي كان و لا يزال ضحية استحواذ سافِر لميراثه.                                                                                                                                                 

الإرادة الأخيرة:

يموت

كما رأيته قبلا يموت

الصاحي الذي

في شبابي المعتم

كان في إتقان رباني،

يرسل بالنظرات و البر وق

عميقا،متهورا ،راقصا في المعركة.

كان بين المحاربين أكثرهم حبورا،

و بين المنتصرين أكثرهم وقورا،

كان فوق أقداره يرفع قدرا.

رصينا ،حذرا،

مستشيطا غضبا قبل انتصاره.

متحمسا للنصر و هو يموت

آمرا و هو يموت،

و كان بأمر بالتدمير.

يموت

كما رايته فبلا يموت: منتصرا، مدمرا...

 


نيتشه(ف). ديوان نيتشه.تر. بن صالح(م).2009.ص.270    


الأستاذ الدكتور بودومة عبد القادر

 

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة