12 May
12May

تجاريح الكتابة: تدفقات أنهار وانهمار الأقدار

ج1/ جرح الكتابة، مسكن الفيلسوف

ج2/ علم-نفس الكتابة

ج3/ الكتابة...حكاية امرأة

أ.د. قواسمي مراد

جامعة عبد الحميد ابن باديس مستغانم.

مخبر:الأنساق، البنيات، النماذج والممارسات.


"إن موضوع الكتابة نسق من العلاقات، فيما بين الطبقات: الطبقة السحرية، النفسية والاجتماعية وحتى طبقة الكون...

الكتابة تلحق الإدراك حتى قبل تجلي الإدراك ذاته، ذلك أن الـ"ذاكرة" أو الكتابة هما انفتاح هذا التجلي ذاته، فالـ"مدرك"

 ليس معطى للقراءة سوى في الماضي، فيما دون الإدراك وما بعده"

جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ص ص 332، 335.



ج1/ جرح الكتابة، مسكن الفيلسوف

الكتابة خط وجرح بما هي أثر، بما هي "تحديد العالم كأثر، أي كانخطاط  الصور والرسوم الخيالية"1 هي واحدة من علامات الحرج الذي يضعنا في المابين ((entre-deux فيما بين الذهاب والإياب، بين اتخاذ القرار والرجوع دونه، لأننا حينما نقرر خطيا ونقر بالكتابة، ثم نفكر فنكون قد ارتكبنا حماقة، هي حماقة الكتابة التي تشهد على ما اقترفنا، ونذهب ونحن مستائين "مجروحين" نادمين على ما جرحنا من نقوش مودية بنا إلى الهلاك. هي الكتابة إذا ما يسجننا في عالم الحروف، بين الفعل ورد الفعل، بين الذهاب والإياب، وذلك كله بسبب ما جرحناه من حروف وخططناه من نقوش، فنعود مجروحين يُخطَّطُ لمصيرنا. لكن الكتابة ليست كذلك فقط، أيضا هي حظّ وحرج، ففي ساعة انقلاب النرد (dès) التي ينتظرها "زرادشت فيها مصيره لن يكون آنذاك (أي زرادشت) سوى لحظة حرجة، في لحظة الانتظار الأبدي الذي لن ينقضي إلا بعد وصول النرد إلى زمن "الظهيرة الكبرى" موطنه الأصلي ومسكنه الأقرب إلى ذاته منه. أجل حتى "زرادشت" رمز الإنسان الفنان، الإنسان الكاتب، الكاتب الحقيقي، المبدع بأرجله أيما إبداع والناطق بأرجله ميمات الجسد هو الآخر يعيش الحرج أنه يجرح بحماقاته المعتادة أوراقا وعذارات فتية، بحبره اللعين يجرح قلب "زولايكا" التي لطالما انتظرت موعده (الظهيرة الكبرى) وقدوم الحمامتين وزئير الأسد، والتي لم تعلم بأنه سكن الكتابة وسكنته الكتابة، وما طاوعته رجلاه على مغادرتها.

على أن الحظ (chance) الذي نبغي هاهنا إنما هو حظ الصدقة، هو لعب الأطفال والمجانين والحكماء أيضا، فكل ما عدا هؤلاء لا يلعبون لعبا نزيها، لعبا بريئا، لعبهم مغشوش يتضمن الحقارات الأخلاقية والقذارات السياسية، واللعب الأفضل هو الأحمق من نوعه، الخالص من الرقابة المريضة، النفسية أو القانونية التي تدعي حسن النية. ليس أيضا "اللعب بإيجابية...المراقب والمحتوى داخل الموانع الوقائية للأخلاق والسياسة..."2 بل الأحرى أن تكون هذه الكتابة من نوع كتابة هوميروس، هولدرلين، غوته ونيتشه، الكتاب الشعراء وشعراء الكتابة الذين لا يهمهم سوى ربط حروفهم المحترقة ببعضها البعض في صدفة جمالية يلوذون إليها ويسكنون فيها، إنهم شعراء يسكنون الكتابة وتسكنهم الكتابة، يلتهون بتراكيب الحروف شعريا أفضل لهم من اللهو بأعراض الفكر المشوش بحدة اللوغوس. هي الكتابة إذا "ما يتعلق بضربة شيطان، أو ما يستخدم كوسيلة لدرء مثل هذه الضربة "ضربة قوة"...ضربة مجازف بها...ضربة مكيدة أو مؤامرة...ضربة حظ...تووت الذي اخترع الكتابة والروزنامة...ضربة الكتابة...ضربة (رمية) النرد..."3

 


ج2/ علم-نفس الكتابة

تخرجنا الكتابة من مأزق الكآبة. إن المقاربة الواقعة بينهما (أي بين الكتابة والكآبة) تكمن في التاء المتحركة، التي تحرك أنطولوجيتنا الروحية من حالة سكون وجمود إلى حالة حركة ورقص فنيان، إلى "آلهة ترقص بداخلنا". هذه التناء المتحركة هي التي تسمو بنا من حالة السلب والجفاء إلى حالة اللعب والنماء، لأنها تتضمن معان مختلفة ومتعددة في الكلمة-المفهوم ذاته (الكتابة).

إنها أسطورة الزمن الرهيب وحكاية "العلم المرح"، إننا بالكتابة نحيا وبالكتابة نموت، ، حياة وموتا هيراقليطيين (نسبة إلى هيراقليطس الفيلسوف) هي تراجيديا تحمل ملامح متعددة التجليات في الهيولي ذاتها، إنها: الكـ(ـتـ) ـآبـة. وبهذا تكون جرحا، حرجا وحجر على قلب العاشق الولهان الذي يرى فيها كل منافذ السلام من حرقة اللعب العشقي، العرفاني، يرى فيها نور الحرية يسطع من سماء مظلمة بعدما يعاني جفاء المعشوق (الله، العشيقة، الحقيقة...) وتأكله نار الوله والاشتياق. إننا بدلا من أن ننتظر رأفة المعشوق، بدلا من الاشتياق إليه في كل ساعة وكل لحظة وحين، نكتب شوقنا، نحفره في أوراق ننقش الأوراق ونشتكي لها آلامنا ومخاضنا، نكتب دموعنا وحالنا إلى المحبوب، لكن هذه المرة بأحرف خالدة، أبدية لأنها تقطن موطن "الذاكرة الموشومة" العاهرة المرسومة. الكتابة والحالة هذه ليست مجرد خطوط نخطها وليست حبرا على ورق، الكتابة هاهنا هي تجربتنا، هي كتابة أصلية، هي الذات المنمحية والتي لم يتبق منها سوى آثار الجرح المندمل الذي يستعد للقاء يوم جديد في عمق الألم والأمل واللوم،. الكتابة هنا هي اللاأصل، هي الأصل المنسوخ، هي اللاكتابة بالأحرى.

في بعض الأحيان لا نجد نفعا مما نخطّ غير أن هذا ليس معناه بأنه لا جدوى من أن نكتب، بل تلكم هي الكتابة، فيمكن أن تكون أفكارنا مستقبلية أو قهقرية لاحضورية وكونها على هذا الحال فإنها من دون شك عبورية، الكتابة-العبور (L’écriture transitive) هذا ما نريد أن نقوله، تلك التي لا تقف عند ومن بعينه، بل تتجاوز على الدوام في حالة هدم وبناء، بناء وهدم متلازمتان.إن كتابة الذات الجريحة رؤية أنطولوجية لإنسان هذا الزمن الجريح، هي فارماكون يقتل ويحيي في المرة آلاف مئات المرات، سم وعقار وشراب محبة للذات والآخر معا في الآن معا، يتكلم بها عديد المفكرين لغة واحدة، نفس اللغة، فبالرغم من اختلاف جراحهم وأوضاعهم نجد هؤلاء كلهم يتكلمون لغة الكتابة وينطقون بها: ميريميه (Mérimée) لورتيامون (Lautréamont) مالارميه (Mallarmé) سيلين (Céline) جيد (Gide) كينو (Quineau) كلوديل (Claudel) وكامو (Camus) كل هؤلاء يتكلمون بالكتابة بألسنة أقلامشهو، ريشاتهم، كلها كتابات متماثلة، يكمن تماثلها في الجرح البالي القديم الذي ينطّقها ويمنحها القدرة على فضفضة ما بداخلها.


ج3/ الكتابة...حكاية امرأة

في فضل الكتابة بيّنات معلومة وسجيات محسومة، فبها وبها يحسن العبور إلى التمثلات والصور الخواطر على متن عديد الجسور، وهي (أي الكتابة) كما يرى بن محي الدين عبد القادر الأمير "وأما الخط فلا يتوقف على شيء، فهو أشرفها (أي أشرف القدرات الأخرى) وهو خاصية النوع الإنساني. اللفظ أشرف من الإشارة والكتابة أفضل من النطق، لأن الإشارة لا تصلح إلا للشيء المرئي الحاضر"4. الكتابة أسطورة الوجود الإنساني قامت عليها حضارات ضاربة في العراقة كلها تشهد لها بقيمتها الفلسفية، الأدبية وحتى العلمية، قوامها غياب دائم على الرغم من حضورها الأبدي، لأنها تصلح للمرئي واللامرئي، للحاضر والغائب، بل في اللامرئي، اللاحاضر يكون تبليغها أفضل وتحصيلها أسهل وذوقها أجمل، ولعل هذه الجدلية هي ما يؤكد دريدا حينما يطرح سؤاله الجوهري: ماذا عن اللوغوغرافيا (الكتابة) ؟ مستلهما محاورة فيدروس (Phèdre) لأفلاطون التي تروي بأن أقوى المحاربين وأعتاهم يخشون الكتابة ويستحيون منها خوفا من أن تحاكمهم أجيالهم لأن الكتابة في نظرهم شاهد وعملهم يختص بالسفسطائي بما أنها لا تعبر عن الحضور والرؤية فقد تختلف عن الواقع، ويصير بذلك خبرهم في خبر كان، بل حتى أقرب الرجال إليها: اللوغوغراف، الكاتب العمومي، هذا الذي طالما كان يجاورها ويتعاطى تركيب الحروف على قارعة الطريق، حتى هذا الشخص التي يقتات منها لم يكن ليجرأ على الاعتراف بها وعلى "إسنادها في شخصه". بل كان على الدوام لا يسمح لنفسه بتلاوة ما يكتب ولكنه لم يعلم أن خطرها لا يكمن في النطق بل في النقش والخط... !! كل هذا لأن كل من يدعي تعاطي الفكر منذ البدء لم يكن سوى سقراطا، مدع للحكمة، محبا للحقيقة ، ذلك لأن الكتابة لا تحضر أبدا ولا تقول الحقيقة فـالـ"مكتوب" والـ"حق" لا يلتقيان أبدا، متنافران مختلفان5. فإلى متى سيظل كل رجل يخشى كل ما ينتمي إلى صنف الإناث المرأة، الفلسفة والكتابة...؟ أليس تعاطي هذا الثالوث معا أو على حدى أشرف ما في الوجود ؟ ألا تحمل المرأة في جسدها ما يأسر الرجل كما في تصورات الفلسفة وتشكلات حروف الكتابة ؟ ألم نزار قباني أكثر الشعراء جرأة وفلسفة حينما لاذ إلى الكتابة واستغاث بها ؟ "لا أريد أكثر من هذا...فمن يعطيني سماء بحجم ورقة الكتابة؟ من يعطيني الكتابة ؟"6  بل إنها "عين العيون، بها يبصر الشاهد الغائب، وفي الكتابة تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان، ولذا قيل القلم أحد اللسانين، بل الكتابة أبلغ من اللسان، فإن الإنسان يقدر على كتابة ما لا يقدر أن يخاطب به غيره"7. ليس هذا غزلا في الكتابة بقدرما هو إعلان أمام الملأ، وأمام النساء الأخريات (الفلسفة، الحقيقة، الحياة...) بأن المرأة الأخطبوط "اليد الثالثة" ملطخة بدمائهن، لأنها تقولهن وتخطهن في الحاضر والغائب وتملي على ذاتها من مصائرهن في كبد العتمات متجاوزة كل العتبات.



 

1  ج.دريدا، صيدلية أفلاطون، دار الجنوب للنشر، تونس، 1998، ص 121.

2  المصدر نفسه، ص 117.

3  المصدر نفسه، ص 132.

4  الأمير عبد القادر، رسالة إلى الفرنسيين، ذكرى العاقل و تنبيه الغافل، تحقيق عمار طالبي، منشورات ANEP، الجزائر، ص 49.

5  دريدا، المصدر نفسه، ص 19.

6  نزار قباني، ديوان إلى بيروت الأنثى.

7  الأمير عبد القادر، المصدر نفسه، ص ص 49، 50.

... يتبع في الموعد المقبل

ج4/ كتابة الاشتياق، كتابة القدر.

ج5/ التاريخ، كتابة اللا-بدء

مراد قواسمي

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة