17 May
17May

تجاريح الكتابة: تدفقات أنهار وانهمار الأقدار

ج4/ كتابة الاشتياق، كتابة القدر.

ج5/ التاريخ، كتابة اللا-بدء

أ.د. قواسمي مراد

جامعة عبد الحميد ابن باديس مستغانم.

مخبر:الأنساق، البنيات، النماذج والممارسات.


"إن موضوع الكتابة نسق من العلاقات، فيما بين الطبقات: الطبقة السحرية، النفسية والاجتماعية وحتى طبقة الكون...

الكتابة تلحق الإدراك حتى قبل تجلي الإدراك ذاته، ذلك أن الـ"ذاكرة" أو الكتابة هما انفتاح هذا التجلي ذاته، فالـ"مدرك"

 ليس معطى للقراءة سوى في الماضي، فيما دون الإدراك وما بعده"

جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ص ص 332، 335.


ج4/ كتابة الاشتياق، كتابة القدر.

نحن إذ نكتب فإننا لا نخط سوى ذواتنا الجريحة المخضبة بالدماء، نكتب صهيلنا وعويلنا، نكتب صرخاتنا وآلامنا، بجروح الأقلام على أوراقنا (Biblia) إننا لا نكتب سوى الـ"نحن" سوى الـ"أنا" هذان الضميران المليئان حزنا، بدء من تجاربهما الثرية بالحفر والثقوب، تاريخ الثقوب هو تاريخ استئناف بدء الكتابة النابعة من أعماق الذات المشتاقة.

لا يحتاج الاشتياق للوغوس (Logos) يكون بمثابة أساس أو دعامة أو قاعدة لما هو روحاني، فليس الاشتياق تأسيسا ولا مؤسسا من قبل شيء ما، لا أساس له ولا قاع، إنه تجربة التيه والضياع، هو تيه في المشتاق إليه، وضياع فيمن نحب معايشته، في ذات الآخر (L’autre) الغير (L’autrui) إن فلسفة المعايشة والحالة هذه تنبع مما يحمله "ترجمان الأشواق" من تقلبات أنطولوجية في روحه، في ذاته المكتوية بنار المشتاق إليه، المبتعد عنه، ذلك أن البعد شرط "الاشتياق"، لا بل إنه هو الاشتياق نفسه، فلا يمكن للوحشة أن تسكننا، أن تمكث في أعماقنا ما لم نكن في الهناك (Ailleurs) في الضفة الأخرى (L’autre cap) في المكان الذي لا يتواجد فيها آخرنا/موضوع شوقنا واشتياقنا. البعد هاهنا ليس المراد به المسافة الزمنية وليس ذاك المكان المقدر بالأشبار والموزون بوحدات القياس، بالأمتار، وليس ذلك البعد الأفقي، وإنما هو احتجاب الضنى عن ضناه، وابتعاد الأرواح عن بعضها وحرمانها التواجد في منطقة التلاقي في زمن برزخ الإنسان، وعالم الصورة والبيان. هاهنا لا يمكن الاستنجاد بحل آخر سوى الكتابة فهي ملتقى كل شريف و مجمع كل عفيف تحتوي كل ما هو لطيف، بالكتابة نجتمع ونتعاطى الجنس الفكري والروحي، بالكتابة نتوالد وتتوالد أفكارنا البغية وبالكتابة نحيا وبالكتابة نموت، ولرب متسائل يحتار أي كتابة يختار !! إنها كتابة الشطحات هي كتابة الجسد والروح، الحياة والموت، البدء والانتهاء، البداية والنهاية، كتابة الآلهة والإنسان، هي كتابة الآلهة اللعوبة في أفق الألب، إذ يشاهدها برميثيوس، إيروسيا وناريا في آن معا ليتجلى بمختلف مظاهره ضائعا، راقصا، بلاهوية، بالكتابة نضيع هوياتنا وتشردم كل مراكزنا "نحن ضائعوا الهوية لا ننتمي إلى أحد...ولا إلى شيء، ولا إلى أنفسنا، إننا بكل أسف شعب المصادفات التاريخية، بالمصادفة نحب وبالمصادفة نكره وبالمصادفة نتحد وبالمصادفة ننفصل وبالمصادفة ننفصل وبالمصادفة ندخل الحروب وبالمصادفة نخرج منها وبالمصادفة نولد وبالمصادفة نموت..."8 إننا أيضا بالمصادفة نكتب وتكون كتابة الصدفة خير من ألف ميعاد، لأنها، أي كتابتنا، تحب المجون الممزوج بالعقلانية وهاهو ذا تووت حامل الكتابة إلى الملك آمون رع يتميز عن غيره من الرسل، ينافح لتبليغ رسالته (الكتابة) ولكن سرعان ما يلقى ترحيبه بالملك-الإله في موطنه النفور ليدشن مصير كتابته بالعبور و يصبح تووت أكثر بؤسا من بروميثيوس، كلاهما يعبر عن تراجيديا الوجود، ولأن الوجود إنساني فالتراجيديا هي أيضا إنسانية،هي تراجيديا الصدفة بامتياز فالكتابة والتراجيديا والإنسان وتووت وبروميثيوس... ولد كل هؤلاء من رحم الكتابة وبنردها كلهم يلعبون ويقامرون على الوجود، على القدر المحتوم والميلاد المحسوم...



 

ج5/ التاريخ، كتابة اللا-بدء

لا تلعب الكتابة تاريخيا لعبة التسارع مع الزمن، إذ ليست تبحث عن الأسبقية التاريخية التي تمنحها طابع التقادم وإنما هي تسعى لأن تكون كائنا حربائيا في التاريخ من خلال "تاريخانيتها" هذا الأخيرة التي تصبح الكتابة بواسطتها زمنا بحد ذاته، ولكنها زمن يتمفصل في لحظة ما هي لحظة شيطانية، إيروسية، تمارس الخبث والنجس على مفهوم الزمن الكلاسيكي، لتنشطر به إلى أجزاء لامتناهية مسجلة اقتحامها بوابة تاريخ الاختلاف، التاريخ المختلف من نافذة القدر المسجون إلى سطوح الزمن الملعون، الكتابة لوحدها لا تكفي لأن تكون زمنا متشظيا، زمن اللاهوية واللاتطابق و الهوية والتطابق في آن معا. إنها بهذا تكون.

كتابة المحبة ليست مجرد عملة ندفعها لتسديد ديون الماضي قصد التخلص منه، ليست أيضا وسيلة تعبير وتمثيل وحسب، إنها تحارب الزمن، وتقاومه، تقف ضد "رشاوة" ماضي الأفكار المتلاعبة بالأقدار، إذ ليس الهدف منها استحضار الحضور أو انعكاسا لصورة الحركة التاريخية حتى يتم اختزالها في صورة ذاكرة مضخمة، تضخم التاريخ، بل لا بد وأن يكون التاريخ هو نفسه كتابة العشق، المحبة والاشتياق، فالكتابة فعل تاريخي يقوم على الاختلاف عما هو كائن، لجعل كل من الكائن والمتطابق في خدمة المختلف، ولربما ضرورة إعلان محبة المختلف عنا ثقافيا، دينيا، أخلاقيا لهو من صلب المهمة التي يجدر بالكتابة تأديتها، على ما يبدو أننا على الدوام فاتحين أيدينا التي طالما ترجع فارغة من دون غنيمة، هذه الأيدي ينبغي لها أن تطال أكثر موقع الضفة الأخرى وعلى ما أظن أن حروفنا لا زالت لم تسمع الغير حروقنا، ولربما ينبغي لكتابتنا أن تغدو أكثر شعرية، أكثر جمالية أو حتى أكثر قسوة و غضبا وفضاعة، لعلّ هذا الآخر يسمعنا بالكتابة المختلفة، لعل الكتابة الممزقة المجزأة، الكتابة الشذرية (L’écriture fragmentaire) أبلغ الكتابات في التعبير عن الآلام التاريخية، لعل هذا ما يجعل دريدا يحسن التمسك بها.

إن القناعة التي تحملنا على ذلك أيضا أن الذات التاريخية ليست مطلقة وليست ذاتا مركزية ولا ثابتة، ليست إذا هي "أنا" ديكارت (Descartes) المتطابقة لأنها لا تحسن سوى قول ذاتها والتطابق معها لا الاختلاف عنها، لكن الكتابة "الجديدة" هذه التي تحاول على الدوام أن تكتب ذاتها لا أن تقولها، إنها كتابة كاتبة لا كتابة قائلة، تكتب اللاحضور علما أن هذه الـ"لا" المقترنة بالحضور ليس "لا" النافية وإنما هي "لا" الإثباتية تثبت السلب والإيجاب والما-بين لأن قول "لا" والجرأة على كتابتها فعل فلسفي، فنحن أولا نكتب ما لا يتطابق معنا وما لا يحضر فينا ثم نكتب ما عدا ذلك، بل وحتى ما قد يكون، ما هو راهن وما هو رهين المستقبل، ما هو آت، نكتب حتى المستحيل. "إن معرفة المرأة نفسه ليست محسوسة أولا أو مملية داخل المباشرة الشفافة للحضور في الذات، إنها ليست مدركة بل مؤولة فحسب، مقروءة أو مستكنهة تعلق علامتها الصامتة..."9 هذا هو القصد من أن الكتابة "ذاكرة منقوشة" لأنها تحتمل عدة احتمالات وفيها يكمن عديد الإمكانات لأنها والنسيان لا يتناقضان بل هما وجهتان للواقع نفسه، ذاك لأن زمن التقادم لا يحتكم بهما، إنهما متطابقان.

الكتابة عمل جينيالوجي ومعول وأداة حفر للسبر اللحظي للفكر والمعرفة، أداة إنتاج المعنى بدلا من الحفاظ عليه في صيغة قوانين ونصوص دينية وأخلاقية لتحطمها وتهدمها لتنتج كتابة أخرى أو قراءة لما كتب في الماضي، هي بذلك عمل إنتاجي متجدد و صيرورة أبدية لا تنقطع، إنها الكتابة عن الكتابة، لاوجود فيها للأصل والأساس، فالكتابة  هاهنا كتابات، إنها الكتابة في الجمع لا في المفرد وكتابة المتعدد لا الأحادي وكتابة الزمن المختلف لا الزمن التقادمي، هي عود على بدء لا ينتهيان حيث لا نفرق البدء من الانتهاء ولا المبتدأ من المنتهى لأنه وبكل بساطة الكتابة تأويل وإرادة كتابة، إنها الذات الغويصة في خبايا التاريخ الـ-بدون قرار، هذه هي الكتابة الاختراق وكتابة الاشتياق، إن مقياس النجاح في الكتابة في "صناعة الكتابة" "تحقيق الهدف الإنساني الذي ينبت في التجربة، ينمو بالثقافة ويزهر بالخيال بالخيال ويثمر بالمعنى ويستمر إخصابه بالإحياء"10



 

 

8  نزار قباني، نفسه.

9  دريدا صيدلية أفلاطون، ص 20.

10  أسعد أحمد و فكتور الكك، الصناعة الكتابة، عن بختي بن عودة: ظاهرة الكتابة في النقد الجديد، مقاربة تأويلية، الخطيبي نموذجا، دار الأديب للنشر و التوزيع، ط1، الجزائر، وهران، 2005، ص 37.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة