نيتشه: البعد الجمالي لتجربة الجنوب
الحلقة الثالثة من حديث الأربعاء: إستئناف أسئلة الأستاذ حمادي حميد الفلسفية
الأستاذ بن دوخة هشام (جامعة تلمسان)
مخبر:الفلسفة وتاريخ الزمن الحاضر
خلافا لكثير من القراءات السابقة وبعض الملاحظات التي تتجه إلى إعتبار مسألة إختيار "نيتشه" للجنوب Le Sud))، بالقول أن ذلك كان بسبب ضرورات أملتها عليه حالته الصحية المتذبذبة فحسب، نعتقد أنه من الأجدر أن نأخذ مسألة إختيار "نيتشه" للجنوب بكثير من التروي والحذر. لذلك ما نقترح بحثه في هذا السياق هو رؤية "نيتشه" للجنوب كإكتشاف لثقافة بديلة عن ثقافة الشمال- الألمان، هذا من جهة. ومن جهة أخرى يهمنا كثيرا أن نتبين تأثير محددات إختيار البديل الجنوبي في التلقي الفلسفي بالنسبة "لنيتشه"، ذلك أننا في عودتنا لتتبع مسألة إختيار الجنوب بالنسبة لمفكر "العود الأبدي للشيء عينه"، إلتمسنا أن اللجوء إلى " الجنوب" وإن كان ملاذا آمنا لصحة "نيتشه" العليلة، إلا أن الأهم في مقابل ذلك حسب قراءتنا، هو أن حضور "الجنوب" في شذرات ورسائل "نيتشه" المتأخرة، يكشف عن موقف من ثقافة جديدة تجاوز من خلالها ثقافة الألمان. يمكن القول كذلك، أن المتعة الجمالية للجنوب، ساهمت في فصل موقف "نيتشه" من الرومانسية وطرحها جانبا، وتحت تأثير ثقافة الجنوب سيتم الإنتقال من مستوى النقد الرومانسي إلى مستوى الإبداع الفلسفي، ذلك أن مفاهيم من قبيل: " العود الأبدي للشيء عينه" مثلا، لايمكن أن تفهم في إعتقادنا إلا مترافقة مع محددات الجنوب في بعدها الثقافي.
يشير الفيلسوف الإيطالي الراهن:" باولو ديوريو" 1 Paolo D’iorio، في كتابه المهم: " سفر نيتشه إلى سورانتو"(Le voyage de Nietzsche à Sorrente) ، أن إكتشاف "نيتشه" للجنوب كان بفضل الصديقة " مالويدا"، التي عرضت على الفيلسوف فكرة السفر إلى الجنوب سنة 1876 بعد تدهور حالته الصحية 2. ثم إن هذه السنة: 1876، تحديدا تذكرنا بتحول حاسم في فكر الفيلسوف، وهو القطيعة مع "فاغنر" التي خلفت أثرا عميقا على نفسية "نيتشه"، ما يجعلنا ننتبه إلى أن فكرة الجنوب كانت إختيارا في الوقت المناسب للبحث عن متنفس جديد وعن بديل للجو الرومانسي الإعيائي. ويمثل إختيار الجنوب بالتالي تجربة جديدة بعد رفض النظرة الرومانسية المتشائمة التي بدأت الفلسفة الألمانية مع "شوبنهور" وموسيقى "فاغنر" تنتهج من خلالها رؤية معينة للعالم، هي من دون شك مضادة للرؤية التراجيدية 3.
ويبدو لنا أن تجربة الجنوب، ستتجه إلى جعل " الجنوبي" (sudiste) مقابلا لمفهوم الشمالي- الرومنسي. فتوظيف مفهوم " الظهيرة الكبرى" مثلا (Le grand Midi)، في الشذرات المتأخرة، لا يمكن أن يؤول إلا كمنبه جنوبي إن صح التعبير نقيض عن زمن التفلسف المناسب في مقابل الزمن الرومنسي، الذي يبدو أن هيجل" كان قد أشار إليه من خلال إستعارته في تصديره لكتابه: " أصول فلسفة الحق"(Principes de la philosophie du droit)، أين يشير :>> فقط مع الغروب تأخذ بومة مينرفا طيرانها 4<<(ce n’est qu’au début du crépescule que la chouette de Minerve prend son envol)، مايفهم منه أن وقت الحكمة بمفهومه الرومانسي تعبير يفهم ههنا مجازيا ، بوصفه إختيار للمساء بما هو اللحظة المناسبة للحكمة 5. ولعل في ذلك صورة عامة عن طابع فكر الشمال (Le Nord)، بما هو فكر مفضل لأفول الشمس (Die Sonne Sinkt) le soleil décliné ). وردة الفعل عن ذلك من طرف "نيتشه"، نلاحظ أنها كانت جنوبية بإمتياز، إذ يبدو لنا أن زمن تحقق الحكمة سيحوله "نيتشه" من الغسق الهيجلي إلى اللحظة العاشقة لإرادة الشمس أو لحظة الظهيرة الكبرى (Le grand Midi) ، نستحضر في هذا السياق مقولة "نيتشه" الموجودة في شذرة من الشذرات المتأخرة للعلم المرح، أين يقول :" تشرق شمس الحكمة مرة واحدة عندما تبلغ الظهيرة أوجها (...) إنها ساعتكم آه يا إخوة منتصف النهار" 6 يبدو أن التفلسف في الوقت المناسب مقرونا بمفهوم الظهيرة الكبرى، مستوحى من هذا الفهم لتجربة السفر نحو الجنوب كما يؤكد على ذلك "باولو ديوريو"7.
إن مفهوم الظهيرة الكبرى حسب قراءتنا، هو البعد الذي يستعيره "نيتشه" من تجربة الجنوب، ليضاد به جوهر ماهو ألماني. وأن في هذا المفهوم بالذات- الظهيرة الكبرى، تتجلى بوادر لثقافة بدأت تظهر مضادة من حيث مناخها على الأقل لثقافة الشمال. وربما لن نكون من المبالغين إن قلنا أنه بالنظر إلى توظيف "نيتشه" لمفهوم الظهيرة الكبرى، نستنتج بعدا فلسفيا وراء هذا المفهوم يعكس معنى التأكيد الفعال L’affirmation active)) لإرادة الشمس في مقابل إرادة المساء/ الضوء في مقابل الظلام، لذلك لانتردد في إشارتنا إلى أن نضوج هذا المفهوم لدى "نيتشه"، وإن ساعده على النقاهة من صحة متدهورة من جهة، وعلى تخطي أفق ثقافة الشمال المتشائمة من جهة أخرى، إلا أنه في كثير من الشذرات يظهر لنا أنه قد تحول إلى تجربة إبداع، بمعنى تحد جديد دفاعا عن مبدأ التصالح Réconciliation )) مع الحياة.
وفي شذرة التحولات الثلاث (Les Trois métarphoses) ، من كتاب "هكذا تكلم زرادشت"، يشير كذلك "ميشال هار" في تأويله لرمزية التحول الثاني،((La seconde métarphose للعقل من الجمل إلى الأسد، أن هناك تدرج في بلورة رؤية جمالية جديدة مغايرة لرؤية الرومانسية الألمانية، فالأسد في هذا الطور من أطوار تحولات العقل، لايزال أسدا عاجزا عن إبداع قيم جديدة 8(Valeurs nouvelles). يبدو أن رمزية الأسد تشير ههنا إلى حدود القدرة الرومانسية على التخطي وعن هشاشة الإرادة في هذا التحول أمام مجابهة مبدأ " يجب عليك" ((Tu dois. لذلك يعتقد "ميشال هار" أن ماينقص رمز الأسد في التحول الثاني هو مصطلح الضحك:" فالضحك يدل على أسد مختلف عن الأسد في التحولات الثلاثة" 9. ذلك مانستطيع تسميته مع "ميشال هار" بالأسد الضاحك" (Le lion Rieur)، دون أن تفوتنا الإشارة أن الضحك رمز الإنسان الأعلى بإمتياز10.
في هذا التأويل للأسد الضاحك وفي مجاز تحول العقل الأخير إلى الطفولة، نعتقد بكل وضوح أن ثمة تأكيدا موجبا على البراءة (L’innocence) ، بداية جديدة وتوظيف لرموز تشير في مجملها إلى تأكيد على الحياة من دون أي خلفية متشائمة، ثم هل نكون على خطأ كبير إن أشرنا مثلا، أن الأسد الضاحك قد يكون نقيضا لبومة المينرفا ؟، ألا يكون الضحك باعثا على التفاؤل والمرح في مقابل عبوس وتشاؤم البومة؟.في هذا التأويل السالف "لميشال هار"، تكون رموز الحيوانات المرافقة "لزرادشت"، وكذلك مفهوم " الضحك" ليسوا إلا أدوات. تعبيرات عاكسة لتجربة جديدة مع فضاء ثقافة الجنوب، مؤسسة لتصور إبداعي يظهر من دون منازع مغايرا ومناظرا للتصور الألماني، الذي لم يفتح في إعتباراته مجالا لظهور النوازع الحية المبدعة ليكتفي بحدود الفكر بما هو معرفة منفصلة عن الحياة. ومع هذا التحول قبل الجنوب تغدو رموز "نيتشه" في النصوص الأخيرة لغة إشارات، لذلك نعتقد أنه ينبغى علينا مسبقا تأويل ماهو المقصود بها ليصير بالإمكان فهم سياق توظيفها. ثم علينا أن لا نمر مرور الكرام على مصطلح الرقص، الحاضر بغزارة في نص "هكذا تكلم زرادشت". وربما لايجب الإندهاش كثيرا إذا لمحنا إلى إمكانية فهم مصطلح "الرقص" كرؤية جديدة للاهوت مناظرة لرؤية الألمان. فالتصريح في " هكذا تكلم زرادشت" :" لا أستطيع أن أومن إلا بإله يجيد الرقص" 11. يأخذ بعين الإعتبار النتائج المترتبة عن رفض الإيمان القديم ويذهب بعدم إمكانية معرفة الإله إلى آخر النتائج المتأتية عنه، أي "العدمية" (Le Nihilisme). وبالتالي إنعدام المعنى، أي إنعدام أساس القيم الأخلاقية المسيحية والتصورات الفلسفية الغربية الاهوتية وحصرا الألمانية.
[1] * - موسيقي وفيلسوف ذو جذور إيطالية من أهم المختصين الراهنيين في فلسفة "نيتشه"، تتلمذ على يد "مازينو مونتيناري" وهو الآن مقيم بباريس حيث يشغل مدير وحدة بحث في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي بباريس CNRS أين يدير وحدة البحث: " فرقة نيتشه" (( L’équipe Nietzsche . بعد مراسلات عديدة من طرفنا إلتقينا به بباريس في مكتبة " فرانسوا ميتيران (François Mitterrand) بتاريخ 90 جانفي 2015 أين أفادنا بملاحظاته الدقيقة ونصائحه الوجيهة، كما أحالنا على كثير من كتاباته الهامة.
[2] - voir : Paolo(D), Le voyage de Nietzsche à Sorrente, C N R S Edition, Paris, 2012, « en voyage vers le sud », p.20.
[3] - voir : Paolo(D), Le voyage de Nietzsche à Sorrente, op.cit, p.20
[4]- Hegel(F), principe de la Philosophie du droit, edition critique établie par Jean François Kervégan, presse universitaire de France, 2013, p.13.
[5] *- المينرفا في الأسطورة الرومانية تحيل إلى إلهة الحكمة ورمزيتها هي البومة التي ستتحول فيما بعد إلى رمز الفلسفة.
[6] - Nietzsche(F), Le Gai savoir, Fragments posthumes (1881 – 1882), op.cit, p.420, aph 11(329).
[7] - voir : Paolo(D), Le voyage de Nietzsche à Sorrente, op.cit, p.24.
[8]- Voir : Haar (M), Par- delà le nihilisme, op.Cit, p.212.
[9]- Ibidem.
[10] - Voir : Ibidem.
[11] - Nietzsche (F),Ainsi parlait Zarathoustra, op. Cit, « Lire et écrire », p.314.