25 Jul
25Jul


اللغة والهوية


 أ.د.مصطفى بلبولة، جامعة الشلف

مخبر الأبعاد القيمية والتحولات الفكرية والسياسية في الجزائر، جامعة وهران2



ساد الاعتقاد كثيرا، وبخاصة لدى الاتجاه المنطقي، أن اللغة نظام من العلامات يعكس العالم ويعبر عنه، وبالتالي فإن هذا العالم يكون سابقا عليها وواحدا في كل الحالات؛ ومعنى هذا أن كل اللغات بمقدورها أن تعبر عنه، بحيث تكون دلالته واحدة في جميعها. ولا يكون لتعدد اللغات إذن، أي مفعول في تحديد الكيفية التي ندرك بها العالم. فوظيفة اللغة ـ وفق هذا المنظور ـ وظيفة تصويرية تعبيرية لا غير. ويترتب على هذا أن اللغة بمقولاتها ليست سوى انعكاس لنظام الأشياء كما هي عليه في الواقع؛ أي إن هناك أسبقية لعالم الأشياء على عالم اللغة. وقد يبدو هذا التصور بديهيا وطبيعيا إلى حد أنه من الصعوبة بمكان وضعه محل تساؤل.

لكن الدراسات اللغوية الحديثة أفرزت بعض المساءلات التي زعزعت هذا الاعتقاد، وهي مساءلات كان مدارها إعادة طرح إشكالية علاقة اللغة بالواقع وبالفكر وبروح الأمة التي تتكلمها وبذهنيتها. وقد أفضت هذه المساءلات إلى نتائج خطيرة، إذ لم تبقَ اللغة مجرد وسيلة للتعبير، بل أصبح ينظر إليها بحسبانها مستودعا للفكر وصورة له كما يذهب إلى ذلك "هردر"، فنحن لا نفكر داخل اللغة فحسب، بل بها أيضا، وبالتالي فإن كل أمة تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم[1].  

ويلزم عن هذا التصور الثوري لوظيفة اللغة، أن اختلاف اللغات وتنوعها ليس مجرد اختلاف على مستوى البنى الصوتية والتركيبية فحسب، بل هو اختلاف يوجّه إدراك أفراد هذه الأمة أو تلك للعالم ويحدد الصورة التي تكون لهم عنه. فاللغة بمجموع ألفاظها وتراكيبها تشكل أطرا لمقولات الفكر، وتشكل ضربا من الفهم القبلي لإدراكنا للعالم، فهناك ارتباط لا يُفَكُّ بين تركيب اللغة وصورتها الداخلية وبين إدراكنا الخاص للعالم.

وتتحدد الصورة الداخلية للّغة باعتبارها خاصيةً للعمل الذي يمارسه الفكر على اللغة. إنها تعبر عن البصمة الفردية أو الوسْم المميز الحاصل من ذلك الاندفاع الذي تُجسِّد الأمة من خلاله قيمَها الذهنية والروحية والعاطفية في اللغة. فهي ليست سوى تجسيد لعبقرية الأمة. ومهما تعرضت اللغة لتغيرات عرضية مع مرور الزمن، فإنها تبقى هي نفسها ما بقي الشعب الذي يتكلمها هو نفسه.  

إن اللغة وفق هذا التصور، ضرب من "اللوغوس" الذي يشكِّل مبدأ وجود الأمة ويوحدها ويوجهها، وينطوي على هويتها العميقة، ولكنه يجعلها في الوقت نفسه منفتحة على الإنسانية بكاملها بفضل طابعه الشمولي.

إن الصورة الداخلية للغة هي العنصر الذي تتجلى فيه الديناميكية الروحية للأمة، بحيث إذا تَمَثّلنا "صورة" اللغة، استطعنا التعرفَ على المسلك الأصلي الذي اتبعته هذه اللغة أو تلك، وهو، بالتالي، أمر يسمح ـــ في الوقت نفسه ــــ بالتعرف على المسلك الذي انتهجته الأمة للتعبير عن أفكارها.


       إن هذه الديناميكية الروحية ليست مجرد ملَكة أو خاصية للإنسان، بل هي جوهر الإنسانية. وليس الروح جوهرا مجردا، بل هو كينونتها. واللغة إذن، هي تمظهر لتلك الكينونة، أعني الروح. ولكن كونها تمظهرا له لا يعني أنها نتيجة له، بل هي تجسيد لديناميكية الروح أثناء نشاطه[2]. فليس ثمة أي فاصل بين اللغة والروح، بل هما أمر واحد ذو وجود داخلي من جهة، وتجلٍّ خارجي من جهة أخرى. فالعلاقة بينهما ليست علاقة نتيجة  

بسبب بقدر ما هي علاقة تطابق فـــ« اللغة هي الانتشار الحر للقوى الروحية للإنسانية»[3].

إن المفعول الذي يحدثه نشاط "الصورة الداخلية" للّغة يؤول إلى اعتبار الكلمات أكثر من كونها مجرد علامات لسانية تعكس الأشياء في ذاتها، بل هي دالة على الصور التي تحدثها تلك الأشياء في الذات، فـــ« الكلمة ليست نسخة مطابقة للشيء في ذاته، بل للصورة التي أحدثها هذا الأخير في النفس »[4]. 


       ومن خصائص الصورة الداخلية للّغة أن تكون دائما نوعية، حيث إنها هي التي تعبر عن فرديتها، لأن كل لغة تختص بإظهار فردية الأمة التي تتكلمها، وفي كل لغة تنشأ "رؤية متميزة للعالم". 

ومعنى مفهوم "رؤية العالم" هو ذلك الإدراك للعالم الذي تؤطره لغة معينة وتوجهه، ويأخذ صورة المبدأ الذي تأسست عليه نظرية التنوع اللغوي. وهو مفهوم يتعارض مع التصور التقليدي للغة الذي يحصرها في مجرد نظام من العلامات تصلح للتواصل، إذ يلزم عنه أنه يجب ألا ننظر إلى اختلاف اللغات كتنوع في الأصوات فحسب، بل هو تنوع واختلاف في رؤى العالم.. 

       ويجب ألا نفهم من هذا أن مفهوم رؤية العالم يتعارض مع الوظيفة الاجتماعية للّغة بل يقضي بأن المنظور الاجتماعي للّغة تابع وثانوي وليس أوليا، ولا يمكن فهمه إلا من منظور أعلى رتبة منه، وهو المتطلبات الداخلية؛ فإذا كانت الحياة الاجتماعية متعذرة بدون لغة، فإن الحياة الداخلية للفرد هي التي تقتضي ذلك أولا. ومعنى هذا هو أن المنظور الداخلي الروحي للفرد هو أساس اللّغة قبل أن تكون اللغة من مقتضيات الحياة الخارجية الاجتماعية.

       إن طابع المحايَثة والتأصل للّغة في الطبيعة البشرية يزيحها من وضعها كمجرد شرط عرضي تابع لمقتضيات الحياة الاجتماعية إلى وضع أرقى هو كونها شرطا ضروريا ملازما لجوهر الطبيعة البشرية، وفي هذا قلبٌ لاتجاه المعادلة الكلاسيكية بين اللغة والتواصل، فعوضا عن أن يكون التواصل هو الدافع لإنتاج اللغة، فإن اللغة ـــ وبحكم ضرورة داخلية ـــ هي التي تنتج التواصل.


   



[1] – SCHAFF Adam, Langage et connaissance, traduit du polonais par Claire BRENDEL,  éd. Anthropos, 1969, p. 18

   

[2] – HANSEN-LOVE Ole, La révolution copernicienne du langage dans l’œuvre de Wilhelm von Humboldt, éd. Vrin, Paris. . p. 44   

[3] -  ibid. p. 45. 

[4] - HUMBOLDT Wilhelm (von), Introduction à l’œuvre sur le kavi Introduction à l’œuvre sur le Kavi et autres essais (La recherche linguistique comparative dans son rapport aux différentes phases du développement du langage, La tache de l’historien, Le duel) trad. Pierre CAUSSAT, éd. Seuil, Paris, p. 198.

   

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة