28 Jul


الفلسفة والتمثلات الشعرية


أ.د.بلعز كريمة، جامعة سعيدة

مخبر الفلسفة وتاريخها، جامعة وهران2



ليس اهتمام الفلسفة بالشعر بالشيء الجديد،  بل يمكن اعتبار أنّ الفلسفة هي  المجال الذي نمت  فيه القرائح الشعرية الكبرى من خلال التأمل والتعقل فكل من الحكمة والذوق ممارسة انسانية دالة علي نشاط الانسان العقلي و الوجداني. و المتأمل لتاريخ الفكر في عمومه سواء الشرقي القديم أم الفكر الغربي اليوناني يجد بأن القالب الشعري كان أساس القول في معظم الأحايين، بحيث كان يتخذ هذا الفكر من الصياغة الشعرية شكلا مفضلا للتعبير عن حقائقه ومضامينه، وهذا كان شأن جل المشتغلين بالحكمة آنذاك. إلى حدود الفترة السوفسطائية والسقراطية وحتى الافلاطونية ، حيث بدأ أفلاطون يفك أواصر هذا التلاحم الحميمي بين الفكر والنظم، بل بين الفلسفة والشعر، بين العقلي المثالي والذوقي الوجداني خاصة في كتابه الجمهورية، وعلى وجه التحديد في الكتاب العاشر بحيث يتم فيه الهجوم على الشعر والشعراء والفن بصفة عامة من وجهة نظر فلسفية.  ولكن لم تدم هذه القطيعة  فمع مرور الزمن ارتبط الشعر بالفلسفة  ووجدت هذه الأخيرة وسطا تتجسّد من خلاله يمكن القول لا يوجد  قطيعة ابستمولوجية بينهما  بل هناك علاقة  تجمع بين الشعر و الفلسفة في مركب واحد رغم تباين طبيعتهما و اختلافهما ، لكن كل من الشعر و الفلسفة يخاطب مجال في الطبيعة البشرية و يعمل على تطورها، كون أن  الشعر يخاطب الوجدان و الروح و الفلسفة تخاطب العقل و التفكير ولهذا فهما يصبّان في بوتقة واحدة وهي الاهتمام بالإنسان  كذات عاقلة مفكرة وذات وجدانية لها قريحة.

الملحمة والتجلي الفلسفي من خلال النظم (الشعر)

إن الحديث عن نشأة الكون في الحضارات الشرقية الأولى، والتطرق الى مختلف نماذجه واشكالياته لما لها من دور في تحديد الدلالات الفلسفية، حول  المسائل الفلسفية الكثيرة، التي تجلّت على شكل قصص شعري لان "الفلسفة حاضرة حيثما حضر الانسان وحيثما فكّر1"   والانسان كيان متكامل من وجدان وعاطفة وفكر ومارس الانسان فعل التفلسف والتأمل الفكري كقضايا الموت والحياة، والنفس والجسد وخلود الروح  السعادة والفضيلة....الخ.

والمتأمل لملحمة" انوما إليش"2  " وجلجامش3"   يجد بعض اللمسات الفلسفية التي تناولها الفلاسفة اليونان منذ طاليس وتسمى الاولى بأسطورة الخلق الأولى وهي   من أقدم وأجمل الملاحم في العالم القديم فتاريخ كتابتها يعود إلى مطلع الألف الثاني ق.م أي قبل ألف وخمسمئة سنة تقريبا من كتابة الإلياذة وتدوين أسفار التورات العبرانية وقد لقيت كثيرًا من الاهتمام والدراسة من قبل علماء المسماريات والأنتروبولوجيا والميثولوجيا  والثيولوجيا4  فإلى جانب الشكل الشعري الجميل الذي صيغت فيه الملحمة والذي يعطينا نموذجًا لأدب إنساني متطور فإنّها تقدم لنا وثيقة هامة عن معتقدات البابليين ونشأة آلهتها ووظائفهم وعلاقاتهم.

وجدت الملحمة موزعة على 7 ألواح فخارية أثناء الحفريات التي كشفت عن قصر آشور بانيبال ومكتبته الّتي احتوت على مئات الألواح الفخارية في شتى المواضيع الأدبية والدينية والقانونية وما إليها وهي كلها مواقف فلسفية من الوجود والآلهة وحتى الأنسان ذاته

وعندما نقرأ مقتطفات من نص الملحمة نجد "اينوما ايليش تعني:

عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء

 وفي الأسفل لم يكن هناك أرض.

ولم يكن من الآلهة سوى ابسو ابوهم وميمو وتعامة التي حملت بهم جميعا

يمزجون أمواههم جميعا.


خلاصة:

أنّ الشعر كلغة بيانية والفلسفة كنسق عقلي ،يتخدان الوجود منطلقا لهما لسبر اغوار الحقيقة. فالشعر ينبجس من الانطلوجي كحقيقة للتعبير عن لوغوس الغير مفصوح عنه والفلسفة تظهر من خلال البيان الملغّز حينا والمكني حينا آخر.والشعر هو العمل الأصيل لابراز الحقيقة كقوّة فعاّلة ونابضة . والوجود في نظر الشعر هو نوع من النداء الذي يدعو الى الاصغاء مثلما كان حال الشعر القديم في الاساطير القديمة حيث يتوحد البشربآلهة، والارض بالسماء  فينفجر الفكر وتنكشف القريحة لتقول ماهو فلسفي بشكل فني وفريد . إذن نلتمس من خلال جدلية علاقة الفلسفة بالشعر أن  في قلب الحقيقة معركة كامنة وديمومة مستمرة هي بمثابة العمل المتبادل  الأصيل . الذي يعتبر بمثابة  "المشروع القبلي للحقيقة وما ماهية الشكل الفني كأثر لمعركة الفلسفية الا دليل على الانصهار الذي جعلهما بالفعل كشكل واحد فمن خلال النظم يظهر ماهو برهاني  ومن خلال ال العقلاني يتجلى البياني


المراجع المعتمد عليها:

1-محمد ثابت أفندي، مع الفيلسوف،دار النهضة العربية    للطباعةوالنشر،بيروت،لبنان،ط1،1984،ص36

 2- اسم الملحمة مأخوذ كما هي عادة السومرريين والبابلين من الكلمات الافتتاحية في النص.

  3- هي ملحمة سومرية شعرية اكتشفت لأول مرة 1853 في موقع أثري بالصدفة وعرف فيما بعد أنه كان المكتبة الرسمية للملك آشور في العراقويحتفظ بالالواح الطينية التي كتبت عليها بالمتحف البرطاني..

4-فراس السواح ، مغامرة العقل الأولى دراسة في الأسطورةدار الكلمة للنشر،بيروت،لبنان،ط21981،ص44

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة