12 Jun
12Jun


"فلسفة اللا ــ فلسفة ... أو الإمكان الآخر للتفلسف"


أ.د.بلعاليه دومه ميلود،جامعة الشلف

مخبر الأنساق، البنيات، النماذج والممارسات، جامعة وهران2



                 بأي معنى يكون اللافلسفي إمكانا آخر للفلسفة ؟ ولماذا لم يتم إستكشاف اللافلسفة بهذا المعنى إلا مع نهاية الفلسفة في صورتها الهيغلية؟

هيغل واستحالة اللافلسفة:

                يرجع الأمر في تصوري إلى الهيمنة النسقية التي فرضها هيغل على مفهوم تاريخ الفلسفة ، باعتباره مجرد تطور لنسق الفلسفة ذاتها من حيث هو نسق الحقيقة بامتياز، ومن ثم بدا القول باللافلسفي كما لو أنه مؤشر إنحطاط تاريخي للفلسفة، الأمر الذي بدا يتعارض مع حقيقة دراسة التاريخ من حيث هو دراسة للفلسفة ذاتها، أي الإمكانية الوحيدة لوجود الفلسفة "كمضمون حقيقي" للوعي، أي "كمفهوم".

                 وبهذا المعنى يتم استبعاد الوعي اللافلسفي ( من حيث هو وعي ماقبل تاريخي للفلسفة، أي كوعي حسي، حدسي، تمثيلي كما يصفه هيغل « Préhistoire du concept ») من دائرة الفلسفة كعلم موضوعه الحقيقة. فاللافلسفي ، إذا ما احتكمنا إلى وجهة النظر الهيغلية، يمتلك وجودا زائفا وغير أصيل ضمن التصور الحقيقي للفلسفة، وذلك لأنه لا يرتبط بالفلسفة إلا على نحو تاريخي، أي متناه و خارجي، وليس "كمحدد جوهري"  بالنسبة لمضمون الوعي الفلسفي ، ذلك أن " ما هو متناه وخارجي لا يمكن أن يكون ما هو في ذاته أبدا، بل ما هو بالنسبة لشيء آخر، [أي فقط] ما هو داخل علاقة"[1] .


                ــــ واضح إذن أن هيغل لا يعترف بعلاقة حقيقية بين الفلسفة واللافلسفة طالما أن هذه الأخيرة لا تأخذ مكانها ضمن تصور الفلسفة كعلم موضوعي للحقيقة، بل هي تنتمي إلى دائرة "الرأي"، ومن ثم هي "خاصية الآخر" الذي لا معنى له إلا كتجربة يعبرها الفكر لحظة تشكله البدائية في محاولة للخروج من ذاته كوعي لا فلسفي ابتداء، لكن سرعان ما يلفظ هذه الخارجية حين يستعيد وعيه بذاته كوعي فلسفي.      

                نخلص إلى القول بأن مع هيغل تتأكد استحالة تبطن اللافلسفي ضمن الفلسفة، اللهم إلا كتجربة ما قبل فلسفية.

  • ما بعد الهيغلية ومقام اللا ــ فلسفة:


                ــ"اللا ــ فلسفي": هو حد متوتر، ليس له بذاته هوية مستقلة من وجهة النظر الدلالية، ينفلت من عملية التعيين الذاتي، ولا يمكن مقاربته إلا في تعينه  كمحض علاقة (Un pur rapport) ، هي هنا علاقة اللافلسفة بالفلسفة . ولكي نتفادى شبهة الالتباس الدلالي للعبارة، نسرع في البيان بالقول أن هذه الصلة ممكنة متى فهمنا الفلسفة، لا كمدونة رسمية أو مدرسية موضوعة لأغراض تعليمية ( وربما إيديولوجية أيضا...)، بل كقدرة على ممارسة الفكر الحر والمسؤول، أي "كتفلسف"[2].


                ــ بهذا المعنى فقط يمكن الحديث ــ مبدئيا على الاقل ــ  عن علاقة ممكنة بين الفلسفة واللافلسفة ، انطلاقا من التأكيد على أن اللافلسفة ليست إلا إسما آخر للفلسفة بصورة مغايرة للصورة التقليدية للفكر، والتي أخذت تعبيرها الكامل في الفلسفة الهيغلية، لذلك لا نستغرب عندما تثقدم الفلسفات المابعد هيغلية في الغالب على أنها فلسفات "هيغلية لا هيغلية"[3] في ذات الوقت دون أن يثير ذلك تناقضا طالما أن الأمر لا يتعلق بموقف شخصي من هيغل أو من فلسفته بقدر ما يتعلق بسؤال الفلسفة ذاته، ومن ثم بتحمل مسؤولية سؤال الفكر تاريخيا وفلسفيا. كما ليس من باب الصدفة في شيء أن يتم نقد هيغل من قبل هؤلاء الهيغليين الشبان(Jeunes hegeliens)  انطلاقا مما يمكن عده "إنفتاحا على ما هو لا فلسفي"، خاصة فيما يتعلق "بنقد المفهوم الهيغلي للواقع"[4](Critique du concept hegelien de la réalité)  أو "الوجود الحقيقي" كمفهوم مركزي ، إذ مع "روج" انفتح الوجود التاريخي على "المصلحة" المعتبرة سياسيا، ولدى فيورباخ انفتح الوجود الحقيقي على الإحساس الفيزيائي والميل العاطفي، ولدى ماركس انفتح الوجود الاجتماعي على النشاط المحسوس كممارسة إجتماعية، بينما انفتح الواقع الإيطيقي لدى كيركيغارد على عاطفة الفعل الباطني"[5].

 

                لكن بالرغم من هذا الانفتاح على اللا ــ فلسفي انطلاقا من نقد هيغل، أو استكشاف اللامفكر فيه الهيغلي، إلا أننا لا نعثر على على أية محاولة نظرية جادة، لدى هذه الفلسفات المابعد هيغلية، استقطبت موضوع اللافلسفة كتيمة فلسفية، مع أن المتأمل لهذه الفلسفات يشعر بأنها كانت تسير باتجاه حتمية القول "بنهاية الفلسفة" ، على الأقل في صورتها المثالية المحضة. وفعلا لم يمض وقت طويل على وفاة هيغل حتى صار هذا الحدث  شعارا  ينبئ بأزمة عميقة في التصور الفلسفي للفلسفة نفسها و في مهمتها التاريخية والحضارية. فهل يمكن أن يشهد هذا القول على بداية عهد جديد هو عهد "اللا ــ فلسفة" ؟


  • إستكشاف "الهيغليون الجدد" "لللامفكر فيه الهيغلي":
     
  • الشاهد الأول: مع فيورباح : فكرة "المباشرة": مالفكر إلا ما يباشره الجسم فينا : "يذكر فيورباخ أن كلمة "مباشرة" من أكثر الكلمات استعمالا لدى هيغل، ومع ذلك فإن فلسفته تجهل تماما ما تعنيه هذه الكلمة، لأن هيغل لا يخرج أبدا من دائرة المفهوم المنطقي، بل يكتفي بتحويل المعطى المباشر إلى عامل التوسط العام، أي إلى عامل تصوري (...) ما تتجاهله كل من المثالية والروحية أن أثر المباشرة لا يمكن العثور عليه إلا في عمل الجسم من حيث أن هذا الأخير ليس مجرد موضوع ، بقدر ما هو القاعدة المشتركة للإرادة والمعرفة (...) وإذا كان هيغل يعترف بوجود طبيعة جسمية حسية، فإنه لا يفعل ذلك إلا مع تحفظات تفرضها مسلمة فلسفة الروح التي ترى بأنها تستمد أصولها من نفسها"[6] .
  •     ــ مع روج « Ruge »  (1802ــ 1880): إستكشاف "مقدرة الزمن":« Puissance du temps » كبعد لا فلسفي للفلسفة (كمعلم مطلق)
    [7]: الانفتاح المستمر على المستقبل. "الواقع الحقيقي ليس إلا وعي الزمن باعتباره محصلة إيجابية بشكل أصيل، [أعني] محصلة التاريخ الأخيرة"[8].
  •   ــ مع كارل ماركس « K. Marx »  (1818ــ 1883)  : إستكشاف "البراكسيس"أو الفلسفة كنظرية للفعل التاريخي (Théorie de la pratique historique) "بواسطة تحقق العقل في عالم الواقع تلغي الفلسفة ذاتها كفلسفة، وتنخرط في الفعلية اللا ـ فلسفية للبراكسيس"[9].
  •    فبما أن هيغل اعتبر ماهية الواقع من ماهية الفلسفة، استخلص ماركس أن على الفلسفة أن تنحل كلية في الواقع. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن التحول اللافلسفي للفلسفة هو بذاته تحرير للفلسفة .   

 

الفلسفة المعاصرة وامتداح اللافلسفة: 


  ـــ الحاصل إذن أن استدعاء مفهوم الفلسفة ضمن علاقته بمضمون الحقيقة كإمكانية وحيدة لتعيين الفلسفة هو منشأ الإلتباس في العلاقة المفترضة بين الفلسفة واللافلسفة. لذلك سعت الفلسفات الما بعد هيغلية إلى أن  تحرر مفهوم الفلسفة من هيمنة "إرادة الحقيقة"[10]، طالما أن الحقيقة ليست مضمونا مستقلا عن إبداعاتنا الفكرية، بل يجب النظر إليها "كمفهوم مبتكر"، ومن ثم يمكن لفكرة "اللافلسفة" نفسها أن تعين مفهوما للفلسفة أكثر مما تتعين به الفلسفة ذاتها كما ينص على ذلك "دولوز":

 و لحصول ذلك يكفي فقط أن تتخلي عن الصورة الوهمية للفكر المرتبطة بــ: "إرادة الحقيقة" كما فعل نيتشه ، وأن تنظر إلى الفكر ، لا كتتويج أخير للحقيقة، بل فقط، مثلما يقول دولوز، "»كإمكانية« لفعل التفكير لا غير" أي فقط كإبداع.[11]     

 

                يمكن تتبع الحضور اللامرئي للافلسفة في تاريخ الفلسفة عبر رصد المواقع المختلفة التي تظهر من خلالها أنماط الوجود الخاصة بالعنصر اللافلسفي ضمن مقامات فلسفية، على تباينها في المنطلقات والمقاصد، تتنافس على موضوعة "اللا ـــ فلسفي" منظورا إليه كجزء من "نشاط السلب الخاص بالمفهوم"، والذي يبدو كعملية "قلب" حقيقية لما يسميه "جيل دولوز"  ــ في عمله المشترك مع "فيليكس غاتاري" : "ماهي الفلسفة؟" ــ  "بصورة الفكر التقليدية للفلسفة" (L’image traditionnelle  de la pensée philosophique)  ، وهي الصورة التي رسخها هيغل عندما فكر الفلسفة ضمن علاقتها بالحقيقة، أي" كعلم موضوعي بالحقيقة"[12] ، وهي ربما الضورة نفسها التي لازمت الفلسفة في شكلها المدرسي، أي كممارسة فكرية مكتفية بذاتها، وأنها قادرة على فهم ذاتها بواسطة تصوراتها الخاصة عن نفسها، منتاسية بذلك أن قدر الفلسفة هو أن تواجه باستمرار آخرها، ليس آخرها المنفصل عنها فحسب، بل آخرها الذي يسكنها ويلازمها باستمرار دون وعي منها، على الاقل أثناء اشتغالها، كما لو كان قدرها الفلسفي بعينه، ولعله بسبب حضوره اللامرئي في الفلسفة صار من غير المتاح تعيينه بصورة إيجابية، مادام لا يكشف عن نفسه إلا كشكل متجاوز للفلسفة انطلاقا من مقام محايث للفلسفة ذاتها. ذلك ما عبر عنه بوضوح "دولوز" حين قال: "بأن اللا ــ فلسفي هو ما يقوم في قلب الفلسفة أكثر من الفلسفة ذاتها"[13] . يبدو هذا واضحا متى سلكنا قراءة مختلفة لتاريخ الفلسفة ، قراءة لا تستهويها البحث عن ما هو موضوعي في فكر هذا الفيلسوف أو ذاك، و لا في البحث عن أجوبة مناسبة لأسئلة متكررة، وإنما قراءة عبر عنها "مارلو بونتي" بوصفها: " قراءة يكون فيها الفيلسوف الذي نتكلم عنه والفيلسوف الذي يتكلم حاضرين معا، وذلك على الرغم من استحالة أن نفصل في كل آن ما يكون من أمر كل واحد"[14] ، بهذا المسلك يمكننا استكشاف ما يسميه "مارلو بونتي"، في إثر هيدغر، باللامفكر فيه داخل المنجز الفلسفي، شريطة أن نفهم هذا اللامفكر "الشيء الذي يأتي صوبنا ، فقط عبر هذا المنجز و بواسطته، كما لو لم يفكر فيه بعد البتة"[15]، إنه بمثابة "عصي التدبر الذي لا ينكشف للتفكير إلا حين يكون على مسافة منا"[16]، إنه بمثابة حضور الغياب الذي يتأكد في "الأثر" كما يفهمه "بول ريكور"، أو هو الأثر نفسه "كإمكانية للامحاء المطلق"[17] كما يقول "دريدا" في سياق توصيفه لمعنى الأثر.  

 

                بهذا المعنى يمثل اللافلسفي ضربا من الالتفاتات الفلسفية غير المسبوقة ضمن التصور الجديد لمعنى الفلسفة ، ونعني بها التفاتات التفكيك والاختراق ، فحيثما حل اللافلسفي وارتحل بوصفه مجرد أثر تخلفه الفلسفة وراءها، فإن التفكيك لا يتوقف عن تصديع نظام اللوغوس المركزي، واختراق جميع مبذولاته الزائدة، ومن ثم هو "ما يجبر اللوغوس على أن يطلب النجدة من آخره كما لو أنه هو وحده من يؤهله للاحتفاظ بذاته وسماع ذاته"[18].



--------------------------------------------

[1] car ce qui est fini et exterieur n’est plus ce qui est en soi, mais ce qui est pour autre chose, ce qui est entré en rapport »( ibid., p.66)

[2] من المفيد الإشارة هنا إلى رغبة كانط في تحرير الفلسفة من طابعها المدرسي وتحويلها إلى ممارسة شاملة، حتى تقوم بدورها التنويري بحرية ومسؤولية. وإن كان يعزى إلى هيغل فرض الطابع المؤسساتي على الفلسفة.

[3] أي  "فلسفية لا فلسفية" إن صح التعبير، يؤكد هذا المعنى "كارل لويث" حين انتبه، كما يقول هابرماس، إلى أن الخطاب الجديد للهيغليين الشبان فيما يتعلق بمسألة ما هو نسبي ــ  الآن التاريخي ــ  هو بمثابة "تعاطي مع الفكر التاريخي بطريقة لا فلسفية".  


 Cf. Habermas, Le discours philosophique de la modernité, Gallimard, 1988, p.65


[4] Karl Lowith, De Hegel à Nietzsche, trad. Rémi Laureillard,Gallimard, 1969, pp. 174-182.

[5] Karl Lowith, Op.cit., p.178 

[6] Karl Lowith, Op.cit., p.106

[7] Ibid.,p.109

[8] Ibidem  

[9]  «Par la réalisation de la raison dans le monde réèl, la philosophie s’abolit en tant que telle, elle s’insère dans la praxis de la non-philosophie de fait » Ibid.,p.124

[11]    « une simple « possibilité » de penser » (Ibid.,p.60)

   [12]  « La philosophie est la science objective de la vérité, la connaissance de sa nécéssité, un connaitre compréhensif et nullement opinion, ni délayage d’opinions. (Leçons  sur l’histoire de la philosophie, p.42)

[13] « Le non-philosphique est peut-etre plus au cœur de la philosophie que la philosophie meme, et signifie que la philosophie ne peut pas se contenter d’etre comprise seulement de manière philosophique ou conceptuelle, mais s’adresse aussi aux non-philosophes, dans son essense (Delleuze et Gattari, Qu’est  ce  que la philosophie?,Céres éditions Tunis, 1993,p. 46)   

[14] M. Ponty, « Le philosophe et son ombre » in : éloge de la philosophie et autres essais, Gallimard, 1960, p.242  

[15] Ibid.,243

[16] Ibid.,246

  [17] La trace n’est produite comme telle que « si elle se constitue comme la possibilité d’un  

effacement absolu. Une trace ineffaçable n’est pas une trace ». ( Dérrida, ED, p.390)


[18] « Le secours inévitable que le logos devait demander à son autre comme à ce qui seul lui permet de se maintenir et de s’entendre » (F.Wahl ; qu’est ce que le structuralisme ? 5. Philosophie, Seuil, 1973, p.182)

   

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة