01 Jul
01Jul


فلسفة القيصاريا

 العودة- نحن- يوبا الثاني

أ.د. مونيس بخضرة/ جامعة تلمسان

مخبر الفينومينولوجيا وتطبيقاتها


    يعد سؤال الفلسفة في الجزائر، سؤال ممكانات عديدة بتعدد الفراغات المتراصة والمتجاورة التي ظلت قائمة في بنيات الوعي الجزائري، سواء في حضوره تاريخي( الوعي الحدثي) أو في ملامسته للأشياء وجدله معها(الوعي الظاهراتي). الوعي الأول يترك للمؤرخين وللمختصين في تحليل الذاكرة، لتبسيط لحظاته العنفية والتسامحية وإحصاء عدد الأفراد ووصف المواقع وذكر الشواهد التي شهدت المعارك بصفة مستمرة، والتي لم تختف ولو للحظة من هذا التاريخ. أما النوع الثاني وهو بيت قصيد دراستنا هذه. الذي يظهر في تحليل اللحظات المنيرة التي توّج فيها العقل الجزائري في تاريخه، وأحسن فيها مساءلة نفسه والعالم معا، وهي اللحظة نفسها الذي كان فيها العقل اليوناني يبني عالم جديد من رماد الشرق، ونقصد بها القرون الخمسة الأولى ما قبل الميلاد إلى غاية القرن السادس للميلاد، وهي المدة التي شهدت عصر التنوير الجزائري بامتياز، لما شهدته من حركية ثقافية متميزة لا تضاهيها أية حركة بعدها.

نحن والعودة: القارئ لمشهد واقع الفلسفة في الجزائر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، أي ما يقارب ثلاث وخمسين سنة كلها، حتما سيدرك مدى الفتور والجمود الذي عرفته الفلسفة كنوع من أنواع النشاط المعرفي في هذا المجتمع، رغم أنها حقبة شهدت أسماء مهمة تميزت بمواقفها وأرائها في قضايا مختلفة، من دون أن تحدث أثرا واضحا في معالم جغرافيا الفلسفة الجزائرية، برغم وجود الإمكانات المادية المؤسساتية والعقلية لتحقيق هذا المطلب(1).

وإذا ما قارنا واقع الفلسفة بواقع الأدب في الجزائر خلال هذه الفترة مثلا، لوجدنا أن الأدب الجزائري عرف تطورا لافتا، سواء من حيث ما كتب فيه من نصوص، أو من حيث نوعية المواضيع الذي أنجزها على غرار نص نجمة والحريق وريح الجنوب واللاّز...إلخ، وهي نصوص كانت علامة فارقة منذ الستينيات والسبعينيات وثمانينات القرن الماضي وبداية العشرية الجديدة. إذ نعتقد أن سر بروزه يعود إلى روح العامة التي سادت هذه الحقب، والتي كانت روح عاطفية وروح مساندة وروح بطولية، وإعادة استلهام مآثر الأمجاد، وبالتالي كان أدبا واقعيا، استطاع أن يرفع انشغالات الواقع الجزائري رفعا فنيا ونصيا، وهو السبب الذي ساعد على إنجاز النصوص والعبارات وهو مطلب ضروري للمعرفة.

أما الخطابات الفلسفية خلال هذه الحقب فقد ظلت فاترة، باستثناء الخطابات الكلامية التي اقتصرت على الفكر الإسلامي، ولم تكن قادرة على إنجاز النصوص ضمن السياق الكتابي، وعلى إبداع المفاهيم والتصورات المطلوبة الحاملة للدلالات والقصديات. واكتفى المشتغلون على الفلسفة بالشرح اللساني والحوارات غير المقيدة في الكتب والمجلات، وهذا ما يمكننا وصفه بالخسارة الكبرى للعقل الجزائري المعاصر، فقد ضيع فترة ملهمة على التفلسف والإبداع، وفقد عصرا كان مليئا بالأسئلة الإنسانية والأنطولوجية والأكسولوجية والجمالية، فبدل الاشتغال على هذه المجالات الحيوية، انساق العقل الجزائري إلى قضايا ايديولوجية وهمية وتحدث باسم الطبقة المتفلسفة على حيثياتها بما أنهم الأقدر على خوض مسائل ايديولوجية مثل عبد الله شريط ومصطفى الأشرف من جهة وعمار طالبي وقسوم عبد الرزاق من جهة أخرى، بينما الذين عاصروهم وظلوا متمسكين بفلسفة الفلسفة وجلهم غادر الوطن على غرار جاك دريدا وألبر كامي ولوي ألتوسير ومحمد أركون، فقد استطاعوا أن يقدموا نصوصا عالمية خالدة، وهي علامة فارقة على قدرة العقل الجزائري الفلسفية.

ومن بين الأخطاء المتوارثة في حق العقل الفلسفي الجزائري، هو كثيرا ما يؤرخ له منذ لحظة الاستقلال إلى يومنا هذا، وهو خطأ شائع يعكس الصورة النمطية التي نرى بها جزائريتنا، على أنها بدأت مع هذه اللحظة. وإذا وظفنا براكسيس العودة في تفكيك هذا المستند، سنجد أن الفلسفة في الجزائر قديمة بقدم سؤال بدء الفلسفة نفسه. فهي تعود إلى ما قبل الميلاد، إلى مدرسة قايصاريا(شرشال) مع الفيلسوف والمؤرخ الملك يوبا الثاني، والفيلسوف تريانتوس آفر، والفيلسوف أبوليوس المدواري (مدوارش- سوق اهراس) صاحب كتاب التحولات وغيرهم من الفلاسفة القدماء، وهذي يعني أن الفلسفة ليست غريبة عن أرض الجزائر بحكم الآثار التاريخية والشواهد الآثارية.

إن الأحكام التاريخية المتوارثة في حق تاريخ الفلسفة الجزائرية، تعود بالأساس إلى التصورات المدفونة في اللاشعور، والتي شوهت تاريخ هذا المجتمع بأكمله، النابعة من التشوهات التي أحدثها توالي الاستعمار على هذه الأرض منذ ما قبل الميلاد إلى غاية عصرنا الحالي، أي ما يقارب ألفين وخمس مئة عام، وكل استعمار إلا وله براديغمه الخاص الشامل الذي فرضه على الوعي الجمعي السائد، وبما أن براديغمات المستعمرين الذين تعاقبوا على هذه الأرض مختلفة وفي بعض الأحيان متناقضة، خلقت وعيا مشوشا على مستوى اللغة وضبط المفاهيم، وعلى كيفية بناء الأحكام وتقرير الأشياء، وعلى أساليب العيش وبناء مجرى الحياة بصفة عامة، فتاريخ الجزائر هو تاريخ استعمار.

تحت هوة تجزؤ حقب هذا التاريخ، صارت ذواتنا مجزأة وغير مستقرة، فالأنا الجزائرية أنا مترنحة لا مستقر لها، تبحث عن الكينونة الأصلية في هذا الوجود وإذا ما سلمنا أن تاريخ الذات هو تاريخ معنى، فمقصد وجودها هو لتأكيد هذا المعنى وجعله أثرا ظاهرا.

 أمام هذا الواقع، صرنا أمام خيارات عديدة، ومعظمها هي خيارات معاناة واستمرار بفراغات مترابطة تعمل على تحقق هذه الاستمرارية، ولم يعد بيدنا إلا خيار العودة. العودة إلى الأصول وإلى مصادر ثقافتنا بحثا عن كينونتنا، وهي عودة من أجل تأكيد ثقافة الإحياء على جميع الأصعدة، وهذا الذي يجعل من فلسفة العودة فلسفة علاجية وآثارية معا، بقوتها الاستشفائية والترميمية، حيث أننا مطالبون أكثر من أي وقت مضى على أن نعود إلى مدارسنا وإلى فلاسفتنا وإلى معلمينا وحكمائنا، ونستحضرهم لمشاركتنا همومنا ومشاكلنا وأزماتنا، عن طريق فعل المحاكاة والإستلاهم، في مقابل تعلمنا مفهوم الحرية الحقيقي، بعد أن نتحرر من ما فرض على عقولنا، على أن اختلاف معتقداتنا وتعدد لهجاتنا وثقافاتنا هو دليل عدم أخوتنا، وهي أحكام جزافية تعد إحدى أكبر معوقاتنا الحضارية، ولكن الحقيقة أن يوبا الثاني وآفر وأبو ليوس وأوغسطين والأمير عبد القادر ودريدا وأركون ومهيبل وغيرهم، هم إخوة من أبناء هذه الأرض التي انقسم حولها الغزاة.

إن عودة- نحن، هي عودة واقع بأكمله إلى الأصول، وإلى لحظات البدء، فهي تستخلص ترحال بنية حياتية معطوبة تبحث عن النموذجية وعن الرؤية السليمة للأشياء وللحقائق، ولبناء هوية متناغمة ومنسجمة صلبة، تتكيف مع المستجدات وكل ما هو طارئ. فعودة – نحن، هي عودة معنى يعاني من الشقاء ليستثمر في الأسس الأصلية التي تشكل منه تاريخه وتحددت بها ثوابت معالمه. وهي العودة نفسها التي أقامها الفيلسوف الأمير عبد القادر في نصوصه المختلفة في قراءته للوجود وللإنسان الكامل وفي اكتشافه لسلاسة الروح، وأيضا في مراجعته للفلسفة اليونانية في نص المقراض الحاد، وهي تجربة لا تختلف كثيرا عن تجربة يوبا الثاني في نصوصه المسرحية وذوقه الجمالي الذي ظهر في معالم وحدائق قايصاريا، وعلى تحصيله الفلسفي على يد كبار فلاسفة أثينا. فكلاهما حقق حلم أفلاطون وهو حلم الملك الفيلسوف، فقد أظهرا مقدرة عالية في فن الحكم والإدارة، وتوظيف السياسة في صنع الحداثة التي يتطلع إليها الرعية، وكلاهما رفض المستعمر وسلكا خيار المقاومة وهذا دليل إيمانهم القوي بفضيلة الحرية  والسيادة، وكلاهما أيضا أحب الشعر وأوصلا به حكمتهما في الحياة وجعله لغة من درجة أولى. أما أبو ليوس صاحب إنجاز أول نص قصصي فلا يختلف كثيرا عن مولود فرعون وعن  كاتب ياسين وعن ياسمينة خضرة والطيب حنصالي وغيرهم، في قدرتهم على إبداع النص الروائي وجعله قادرا على حمل ثقل الواقع المعاش وأسئلته، وآفر لا يختلف عن اسياخم والهاشمي قروابي وأحمد وهبي وحسني وغيرهم في ذوقهم الفني والجمالي وجعله ملهما جماهريا. هم كلهم سليلون الروح الجزائرية وثقافاتها.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة