منذ أواخر القرن العشرين، كانت الجزائر فضاءا للسينما، مع سعي الإخوة "لوميير" لخوض مغامرة الفيلم الوثائقي من خلال أفلام "الجزائر"،"دعوة المؤمن"،"ساحة الحكومة" ،"الميناء" ومشاهد أخرى من تلمسان،..ولان السلطة الفرنسية شجعت هذا النوع من المقاربة ،فلأنها كانت تبحث عن تدجين لأي شكل من أشكال المقاومة، وفي نفس الوقت تسوق لخطاب كولونيالي فاتر، وهو التفوق المزعوم على ثقافة تراها بدائية، ومن ثم شرعية محوها وتعويضها بثقافة المنتصر الغازي.
لم يعد الالتباس قائما،ما بين التسطير الحرفي للتاريخ في فيلم وثائقي وإمكانية توظيف التاريخي في فيلم شعري وثائقي.إذ عادة ما يسعى الفيلم الوثائقي إلى تشكيل تلك المسافة الفاصلة فنيا ما بين الذاتية والموضوعية، بحثا عن خطاب حيادي يوثق للحدث ويبني آليات فنية للوحات منسقة شارحة ومدعمة للفكرة المقترحة.
إلا أنه حينما يتجرد الفيلم الوثائقي من أسلحة الحجاج الجافة ويركن إلى شعرية الغناء والصورة الإيحائية مستنطقا الذاكرة والتراث على حد سواء على طاولة النسيان..مذكرا أن هؤلاء "الانديجان" على أرضهم كان لهم حضورا وصوتا وكيانا ، في مواجهة تغييب للحضور والصوت والكيان..، حينها فقط تختلط خيوط اللعبة ونحاول من جديد أن نعيد أبجديات قراءة الفيلم الوثائقي .
مع فيلم "الزردة وأغاني النسيان"، تجربة يتحد فيها الصوتان: الكتابة والإخراج للروائية "آسيا جبار"، في قراءة متجددة النفس لتركيبة ثلاثية الصيغ : التيمة / الأداء/ الصورة.
فالي أي مرفأ تقذف بنا القراءة النقدية لتوثيق الذاكرة سينمائيا ؟ وكيف نحلل شعرية فيلم وثائقي يرفض الانصياع لسقف الموضوعية محاكيا المعاناة ومقاسما ألم الذاكرة؟؟
شيء ما حدث في تاريخ السينما ، أذاب الجليد بين الخيال والتوثيق ، أنتج فيلما ينسج وجوده من الوثيقة ومن الشعر ومن الحكي في ميزانسين على الميزانسين ، فاضحا الوجه الخفي للظاهر، مسائلا شرعية ومصداقية "فعل التصوير" في حد ذاته.
بعد غياب عن الرواية دام لأكثر من 10 سنوات ، تجد المبدعة مجالا أوسع لفتح الأبواب نحو أدوات قد لا تمنحها الرواية ، فضاء معقد يجمع في ثناياه : الشعر، الصوت ، الصمت ، الضوضاء ، الغناء ، تموقع الذات ، الأنا والآخر..توليفة رائعة للمسكوت عنه وللنكرة.
"الزردة " هي تلك الاحتفالية التي صادرها المصورون الأجانب ، لنقلها كمتاع غرائبي تعكس ثبوتية الحضور، بملامح المحلي وروائح الانتماء.
بطبيعة الحال ، التفت إلينا الانثربولوجيون ودارسوا التاريخ والمستشرقون ، لعلهم يجدون في عاداتنا وسلوكياتنا ما يثبت دونيتنا وجهلنا وإقصاءنا عن المدنية.
يحضرني في هذا المقام ما فعله الفرنسيون مع "الكلدونيين"حينما جاؤوا بهم من بلدهم لمعرض احتفال فرنسا الكولونيالية بمرور مائة سنة على احتلالها ، وطلبوا منهم أن يحاكوا في قلب الشتاء الوحوش وآكلي البشر،لإضفاء على المعرض روح التشويق وتضخيم إيرادات المعرض في بيع تذاكر للفانتازيا والوهم.
لم يعد الالتباس قائما ، ما بين التسطير الحرفي للتاريخ في فيلم وثائقي وإمكانية توظيف التاريخي في فيلم شعري وثائقي. بل سيفكك الخطاب الكولونيالي من خلال توظيف نفس الصور الحاملة لفكرة الاستعباد والدونية ، ويتحول شعريا إلى وثيقة إدانة في يد المخرجة ، إذ "حولونا كالبلوط عصيدة"، واقتطعوا ما حاولوا اقتطاعه من انتمائنا لهذه الأرض.
يجيز مساءلة المعتدي ويعيد الاعتبار للوجوه النكرة التي غيبت طويلا، وأسقطت عمدا من الذاكرة.كما أن التأليف السردي في إطار رسوم للوحات متتابعة من صور الأرشيف الكولونيالي ، شكل حبكة أو "ميثوس" متماسكة هي في الأساس جملة من الأحداث المتسلسلة زمنيا ومكانيا ، المرتبة في قالب توليدي للمشاعر والأحاسيس التي تبثها حركة المونتاج وإيقاع الموسيقى الحاضرة بقوة.هل هي صورة المشهد أو مشهد الصورة ، عين الشاهد الذي يسعى في لحظة من الزمن إلى أسر الحدث وتأطيره. من يأسر من ؟؟ بمجرد أن تلتقط اللحظة ، تنفلت الصورة عن الحياد ، وتجعلك رهين الزاوية التي أطرت لها.
سؤال جسيم يطرح ذاته ، يشوش الانصياع ،هو ذاك الوجود المرتبط بالغيرية أو الأخرية أو "اليوجد هناك" ، ذاك الذي يعادل الليل ، المبهم ، عدم التحديد ، واللامعرف ، فقط لأنه ليس "أنا" بل هو "الآخر".
لهذا لجأت المخرجة إلى تقنيي "الزوم" و"التكرار"، للوقوف عند ملامح الصورة "النكرة" وكأنها تسعى إلى ولوجها ، تكرر الكلمات وكأنها تسعى لنقشها في الذاكرة.
يقترح الفيلم قراءة من زاويتين متعارضتين:
-الكتابة التاريخية ، التي هي عادة حيزا للرجال ، إذ هي أداة قوة وسلطة.
-الحكيOralité أو حيز النساءDiseuse de souvenir
كان لزاما إذن ، أن تذكرنا "آسيا جبار"أن الذاكرة جسد امرأة ملثمة،عينها الطليقة وحدها تركز حاضرنا..." فتصنع الحبكة من ذاك الأرشيف الكولونيالي ، مواد متراصة ، ناسجة حكاية شعب في تاريخانيته ، تلك النساء الواقفات على الأسطح بغرداية (1923)،هؤلاء الرجال في الساحات العامة ، تلك الزغاريد المرافقة لرقصهن وأغانيهن ، موحدة ما فرقته العادات والصيغ الاجتماعية.
يتدرج الجسد ، يتمايل ، ينسى الكودات التي تسيره وتخنقه أو يتجاوزها ، لحظات تفرد تنساب مع إيقاع الجسد الراقص ، ويتحول في لحظة لقطة كاميرا إلى أيقونة للمسك باللحظة الزائلة لقوة الحضور. تلك هي اللحظات التي صودرت من الذاكرة ، دونها المستعمر الفرنسي وأرشفها، بل و أحالها الى ملكية ، لاستعراضها كمساحة للغرائبي و العجائبي لبدائية الانديجان وثقافته –غير المفهومة.
"يصوروننا وبطوننا فارغة ، أقدامنا حافية لأجل عيون نساءكم ، لأجل متعة شخصياتكم.."..
مع فيلم "الزردة وأغاني النسيان "، تستعيد "آسيا جبار" التموقع ، لم تعد الكينونة باهتة ، بل تحددت المعالم ، وظهر ان هذا الشعب ، ليس فقط غياب، وإنما حضور وتاريخ ، وانتماء، بإمكانه أن يملك صوتا وصورا تعكس هويته ويسطر مسارا خاصا به، ويوثق ما بدا حالك الوجه ، غائبا في أفلام الكولونيالية وكاميراته.