منذ أسابيع أعلنت وأنا أنشر الحلقات الأخيرة من حديث السبت على ان الحلقة الثانية عشر سأخص بها شاعر محمود درويش، وها هي هذه الحلقة الأخيرة تتصادف مع العودة للحديث في الصحف العربية عن الحياة الشخصية للشاعر محمود درويش وإفشاء أحد أسراره الشخصية. لست هنا لأتحدث عن هذه القضية التي لست أهلا لها، ولكن أعود لشاعرنا لأني أعرف جيدا بأننا كلنا ومهم تعددت الألسن نسمع درويش، ونحب شعر درويش، ونغني شعر درويش. من منا لا يردد على الأقل قصيدة مديح الظل العالي أو بعض أبيات منها أو أن أذنه تظل تسمع من بعيد صوت مارسيل خليفة وهو يغني أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي. درويش سجل حضوره القوي علينا وفينا ربما للعديد من الأسباب، ولكن يعود السبب الجوهري في رأيي أن السر الأساس هو أن درويش وشعره ارتبط بالدفاع عن قضية. قضية لا تتعلق فقط باسترجاع أرض سلبت بل بما هو إنساني والذي جعل منه درويش في شعره: كلمة وصور وصوتا، قضية كونية تحمل ما هو مشترك بين الإنسانية كلها والذي يمكن تلخيصه في الحق في الحياة. والحق في الحياة يشكل قوة شعراء الثورة كما هو الحال عندنا مع الشاعر مفدي زكريا أو مع أبي القاسم الشابي.
الجانب الثاني الذي أردت تناوله مع درويش يتعلق بالقضية نفسها في جانبها السياسي وأعني بها القضية الفلسطينية، ونحن نحتفي بعد أيام بذكري عيد الاستقلال 05 جويليه أريد أن أنبها لمسألة ارتباط القرار السياسي الجزائري بالقضية الفلسطينية وقضايا تقرير المصير عموما. موقف الجزائر لا يجب في رأيي أن نفهمه في جانب سياسي فقط بقدر ما يجب أن نعمق النظر في أن الموقف مبني على معطيات تتعلق بالجانب الأنطولوجي لما هو جزائري. ما معني هذا؟ لا يمكن أن ننكر على الجزائر بأنها تصدت لأكبر قوة استعمارية بل وعاني شعبنا لمدة تزيد عن القرن وثلاثون سنة من أشد ممارسات التعنيف والتعذيب ولكم أن تطلعوا بموضوعية عن الأرشيف على الأقل المتوفر منه والذي في بعض الأحيان تشمئز له نفوسنا أذكر أن أحد إطارات الجيش الوطني الشعبي والذي توفي مؤخرا ( رحمة الله عليه) تحدث مرة ، تسعينيات القرن الماضي، في التلفزيون عن كلب نسيت كيف كان يسمى لدي المستعمر تم تلقينه قواعد الفعل المخل بالحياء، ولكم أن تتخيلوا ذلك.
إن الاستعمار ومن خلال ممارساته يدفع الشعوب المستعمرة لتكوين رؤية مستقلة لمعني التحدي، والذي يأخذ صورا متعددة ومتصاعدة منها: رفض الأوامر، العصيان، الثورة، العنف، لمواجهة الخوف في صوره المتعددة وكان قد تفطن فرنز فانون لهذه المسألة في كتابه المعذبون في الأرض. التحدي وجدلية استعمال العنف تلك هي المعادلة التي يمكن أن نقف في البناء الأنطولوجي للشعوب التي تعرضت للقهر. ولذلك ارتبطت الجزائر وجوديا بالدفاع عن الشعوب مسلوبة الحق ألم يطلق علينا الجزائر أرض الأحرار، لقد كان الرئيس ياسر عرفات رحمة الله عليه يرددها دوما ألم نحتضن صوت فلسطين الإذاعي، ألم نحتضن وبقرار سياسي حكيم مؤتمر الإعلان عن الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القديس بقصر المؤتمرات، ألم نحتضن ثوار جنوب إفريقيا للدفاع عن حق في العودة لأرضهم، ألم نحتضن وما زلنا بعد شعب الصحراوي للدفاع عن أرضه المسلوبة. كل هذا وغيره كثير لا يعني موقف سياسيا فقط بل موقف وجودي بالنسبة للشعوب التي عانت الاستعمار.
ولذلك فالعودة اليوم لمحمود درويش ليست فقط عودة لترديد شعره الحميل والمؤثر بل لأبين كذلك وبمناسبة عيد الإستقلال أن الجزائر ستبقي ملتزمة مع قضايا الدفاع عن حقوق الشعوب المستعمرة لأنه موقف بغض النظر على أنه سياسي فهو موقف أنطولوجي مرتبط ببناء الذات الجزائرية.
وطني ! يا أيها النسرُ الذي يغمد منقار اللهبْ
في عيوني
أين تاريخ العرب؟
كل ما أملكه في حضرة الموت
جبين وغضب
وأنا أوصيت أن يزرع قلبي شجرةْ
وجبيني منزلاً للقُبَّرهْ.
وطني، إنا ولدنا وكبرنا بجراحك
وأكلنا شجر البلّوط ..
كي نشهد ميلاد صباحك
أيها النسر الذي يرسف في الأغلال من دون سببْ
أيها الموت الخرافيُّ الذي كان يحب
لم يزل منقارك الأحمر في عينيَّ
سيفاً من لهب ..
وأنا لست جديراً بجناحك
كل ما أملكه في حضرة الموت:
جبين ... وغضب !
(منقول)
أصدقائي أشكركم على صبركم معي طلية حلقات حديث السبت، والتي إستمرت لثلاثة أشهر يمكننا العودة للحديث عن الشعر في جانب أخر سنعلن عنه في أشهر القليلة القادمة .
بن شرقي بن مزيان