إن اختيارنا لموضوع الانطولوجيا الفينومينولوجية عند مارتن هيدغر(1889-1976) ليس خيارا اعتباطيا بل أملته وحتّمته ظروف الأزمة الراهنة، أزمة جائحة كورونا (كوفيد19)، وهي أزمة أفرزت جملة من التحولات رافقتها تدابير وقائية مسّت ماهية الفرد وخصوصيته ككيان أخلاقي. حيث لم يعد ينظر إليه كذات إنسانية بقدر ما هو "جسد" حامل للعدوى، فانتشرت بذلك ثقافة الخوف (الخوف من الموت، الخوف من الآخر، الخوف من العزلة، الخوف من المستقبل....الخ) لتتجاوز الجائحة مستواها البيولوجي الصحي وتصبح بذلك ظاهرة Phénomène إنسانية عامة ذات أبعاد وجودية. ورغم إيماننا بإمكانية تعدّد القراءات الفلسفية لهذه الأزمة، إلاّ أننا نعتقد أن المنظور الأنطولوجي الفينومينولوجي يمكن أن يساهم إلى حدّ بعيد في الإحاطة بهذه الظاهرة. لذلك ارتأينا من وراء هذه المحاولة تقديم قراءة موجزة لأنطولوجيا هيدغر الفينومينولوجية، قراءة لا تدّعي بأي شكل من الأشكال التطابق والتماهي مع النص الهيدغيري الأصلي، قراءة قد تساعدنا في امتلاك بعض الأدوات المنهجية لتشخيص واقع وأزمات الإنسان المعاصر.
ترتكز مقاربة هيدغر على إضفاء الطابع الأنطولوجي على التوجّه الابستيمولوجي لفينومينولوجيا هوسرل تحت شعار:" ليست الأنطولوجيا ممكنة إلاّ بوصفها فينومينولوجيا". فلماذا لا إمكانية للأنطولوجيا إلاّ بوصفها فينومينولوجيا ؟ وإذا وجب على الأنطولوجيا أن تكون فينومينولوجية، فأية دلالة يعطيها هيدغر للفينومينولوجيا؟ هل يقتفي أثر أستاذه هوسرل ويأخذ بها كفلسفة ترنسندنتالية تردّ كلّ شيء إلى الوعي الخالص، أم أنّه يتجاوز هذا البعد المعرفي باتّجاه إعطائه أساسا وضعيا وعينيا لوجودنا اليومي؟ وإذا سلّمنا بخصوصية المنهج الفينومينولوجي عند هيدغر، فكيف أصّل لهذا المفهوم ايتيمولوجيا لإمكان بناء أنطولوجيا أساسية تقوم على نموذج معرفي عملي بديل للنموذج المنطقي المنهجي؟ ثمّ إلى أي مدى مكّن هذا التحوّل الأنطولوجي للفينومينولوجيا، وتجديد منظومة المفاهيم من الكشف عن حقيقة الوجود ومجاوزة الميتافيزيقا ؟
نشير بداية إلى أن التعامل مع النص الهيدغيري كمجرّد نصّ تاريخي يغيّب الواقع والمعيش الإنساني الراهن والحاضر هو طمس لحقيقته، لأن هيدغر إذ يستعيد السؤال الفلسفي القديم: ما الوجود؟ فهو في الحقيقة يتساءل أولا وقبل كلّ شيء عن العالم التقني الذي يحدّد معيش الإنسان المعاصر. لكن هذا السؤال الفلسفي الذي يتخّذ واقع ووجود الإنسان الراهن موضوعا له، لا ينفصل عن التساؤل الميتافيزيقي القديم الذي يبدأ منذ أفلاطون وهو: ما الوجود؟ بل هو امتداد له. ما يحرّك البحث في مؤلّف "الوجود والزمان" هو سؤال معنى الوجود، أي استعادة سؤال الوجود الذي سقط اليوم في النسيان. ولا يتحقق ذلك إلاّ باعتماد المقاربة الفينومينولوجية، فالفلسفة هي " أنطولوجيا فينومينولوجية شاملة تنطلق من هرمينوطيقا الدازاين (الآنية) التي، وبما أنّها تعدّ تحليلا للوجود، فقد قامت بتحديد نهاية الخيط الموجّه لأي تساؤل فلسفي حيث يبدأ انبجاس هذا الوجود، أو حيث يفترض فيه أن ينبجس"[1]. إن اللامبالاة اتجاه مشكلة الوجود ارتبطت حسب هيدغر بثلاثة أحكام مسبقة، وهي أحكام شكلت عوائق أمام كلّ بحث أنطولوجي، ولها جذورها في الأنطولوجيا القديمة وهي: أن الوجود هو المفهوم الأكثر كلّية، وأنه بذلك غير قابل للتعريف لا يمكن إرجاعه إلى جنس أو نوع، ثم إنه بديهي لا يمكن التساؤل عنه. وبعيدا عن هذه الأحكام المسبقة، الوجود بالعكس لغز ما يجعله مبدئيا موضع سؤال.
قبل ومن أجل الإجابة عن سؤال معنى الوجود، يبدأ هيدغر بتحليل بنيته (بنية السؤال). في هذا السؤال مثلما في أي سؤال نستطيع أن نبيّن ثلاث لحظات: هناك أولا المطلوب، المسؤول لأجله (Erfragtes) أي الهدف من السؤال وهو معنى الوجود ذاته، وهناك المسؤول عنه (Gefragte) أي ما عليه نسأل وهو الوجود، وهناك أخيرا المسؤول (Befragte) أي من يطرح عليه السؤال، أي من يمثّل نقطة بداية البحث، ولا يمكن أن يكون حسب هيدغر سوى الموجود، مادام الوجود لا يظهر إلاّ من خلال الموجود. لكن أي موجود يمكن أن يكون الخيط الهادي لسؤال الوجود؟ إنّه في نظر هيدغر الموجود الذي يطرح سؤال الوجود، أي "نحن أنفسنا" والذي يسمّيه "الدازاين" أو الوجود هنا (الآنية). الوجود هنا يتمتّع إذن بامتياز يجعله ويعيّنه ليكون موضوع السؤال. الوجود الإنساني ليس أي موجود، بل له الخاصية الأساسية لأن يكون دوما في علاقة مع الوجود. فنحن نتحرّك دوما ضمن فهم ما للوجود، نعرف ماذا يعني وجود رغم أننا غير قادرين على تفسير هذه المعرفة الواسعة والغامضة. وهذا الفهم للوجود هو تحديد تكويني لوجودنا. "فهم الوجود، يقول هيدغر هو ذاته تحديد وجود للوجود هنا". الوجود هنا هو وجود أنطولوجي. ليس بمعنى أنه أسّس أنطولوجيا، ولكن من حيث هو يفهم الوجود، فإنّه شرط إمكان كلّ الأنطولوجيات. خطّة هيدغر في "الوجود والزمان" هي إذن كالتالي: إظهار معنى الوجود بتحليل مسبقا الوجود الذي يفهم الوجود أي الموجود الذي نحن هو(الوجود هنا)[2].
وتحليل هذا الوجود، أي الموجود الذي يفهم الوجود يسمّيه هيدغر الأنطولوجيا الأساسية، وهي شرط إمكان كلّ بحث أنطولوجي "الأنطولوجيا الأساسية التي تستمدّ منها الأنطولوجيات الأخرى يجب البحث عنها في التحليلية الوجودية للوجود هنا (الدازاين)"[3]. و يميّز هيدغر هذا التحليل الأولي للوجود هنا (الدازاين) عن الأنثروبولوجيا، وعن السيكولوجيا والبيولوجيا التي تعدّ في نظره علوم أنطيقية (Ontique ) تتعلّق بالوجود الإنساني في ذاته، أي أنها تعتبره موجودا من بين الموجودات وليس موجودا ذو خصوصية أنطولوجية، أي كموجود يسائل الوجود (الوجود لذاته). الإنسان ليس "شيئا ما" بل "الذي" نمط وجوده هو "أنه يوجد في العالم" ليس مثل الجزء في الكلّ أو مثل الماء في الكأس، بل كانفتاح في العالم، من حيث أنه يسكنه ويحمل همّه، من حيث هو مألوف عنده. الوجود هنا (الدازاين) ينفتح على العالم، هذا العالم الذي ليس مجموع الأشياء الحاضرة فيه، أو أحداث منعزلة في الزمان والمكان حسب الصورة "الطبيعية" للعلوم. بل بالعكس هذا العالم هو "دلالة الأشياء التي نتعامل معها، أي الأشياء التي في خدمتنا. والخاصيات الأنطولوجية الأساسية لهذا الموجود هي: التواجدية (Existentialité) ، الوقائعية (Facticité) والسقوط Dévalement)) .
وقد اعتمد هيدغر على المنهج الفينومينولوجي وأعلن عن ذلك في "الوجود والزمان" بقوله: "مع السؤال المباشر لمعنى الوجود، البحث يتناول المسألة الأساسية للفلسفة بصفة عامة، لكن نمط هذه المعالجة فينومينولوجي"[4]. لكن هيدغر يستخدم هذا المنهج لأغراض أخرى غير التي رسمها أستاذه هوسرل، بل إنه يعيب عليه أنه بقي أسير إشكالية "الذاتية المتعالية" فكان بذلك مكرّسا للتقليد الفلسفي للأزمنة الحديثة[5]. فكيف أصّل هيدغر لمفهوم الفينومينولوجيا؟ ماذا تعني كلمتي فينومين ولوغوس المكونتين للمفهوم؟
بالعودة إلى الحفر في جذور الكلمتين وتاريخ تشكّلهما، يرى أنّ أصل كلمة فينومين Phénomène في التعبير اليوناني هو فاينومينون المشتقة من فعل فاينستاي والذي يعني يظهر ذاته se montrer، أي المنكشف في ذات- نفسه، المتجلّي. من هذا المعنى الأوّل للظهور الذاتي، تشتقّ المفاهيم الأخرى المتعلّقة بالتجلّي. وإذن، فهناك إمكانية يظهر من خلالها الكائن مثل ما هو ليس عليه، في ظهور مثل هذا، فإنّ الكائن "يبدو وكأنّه..." ويسمّي هيدغر ظهورا كهذا ب " الظهور" Le Paraitre. من هنا نصل إلى معنيين للفينومين، الأوّل أصلي وإيجابي (ظاهرة= تجلّي، كشف)، والثاني ثانوي وسلبي نوعا ما ( البادي، الظاهر، التشابه...إلخ). والمعنى الأوّل هو أصل وأساس المعنى الثاني. إذن هناك الفينومين Le Phénomène وهناك الظاهر L’apparence . يوجد الفينومين وما هو عليه في ذاته ويوجد ظاهره، أي ما يبدو منه أو ما يبدو عليه. ثمّ هناك معنى ثالث للفينومين، وهو معنى ثانوي أيضا، والذي يتطابق مع الكلمة الألمانية Apparition – Erscheinung والحاضرة بقوّة عند كانط. فيصبح تعريف الفينومين هنا هو كلّ ما له صفة عرض (مظهر) Symptôme، دليل أو علامة، إشارة إلى واقع لا يتجلّى، أي ما-لا- يظهر. ولتوضيح هذا المعنى يرتكز هيدغر على مثال الحمّى التي تعدّ علامة على خلل في العضوية. للفينومين إذن ثلاثة معاني: معنى أصلي ويعني المتجلّي (ما يظهر من ذاته)، ومعنيين ثانويين: ما يبدو (الظاهر)، والمظهر (العلامة على ما لا يتجلّى).
أما كلمة لوغوس Logos فتعني حرفيا "القول"، الخطاب Discours ولن يكتمل المعنى الحرفي لهذه الترجمة إلاّ بتحديد معنى القول ذاته. لأن تأويلات الفلاسفة اللاحقة لكلمة لوغوس طمست هذا المعنى الحقيقي، حيث ترجمت بوصفها عقلا Raison وحكما Jugement وتصوّرا وتعريفا Définitionوعلّة وإضافة[6]. وقصد تحديد المعنى الفينومينولوجي لهذه الكلمة يعود هيدغر إلى أرسطو. ويرى أن كلمة لوغوس بما هي قول أو كلام، تعني جعل ما يتكلّم عنه في القول واضحا، أي أن للغة وظيفة الرئاية والتبيان. اللوغوس يري شيئا، يجعله جليا، فعندما نتكلّم فنحن نكشف عن الكائن، نزيل عنه الحجاب فنظهره. فالإظهار عن طريق الكلام هو أحد الأشكال المفضّلة للأليثيا Aletheiaالتي تعني الكشف. إن في قدرة اللوغوس على رئاية (تبيان) شيء ما ورفع الحجاب عنه أي جعله جليا دليل على احتوائه إمكانية أخرى. فبقدر ما يمكنه رفع الحجاب بقدر ما يمكنه الإخفاق، فيخطئ هدفه، ويحجب الشيء الذي يتكلّم عنه بدل رفع الحجاب عنه، لأنّه يري شيئا ما بما هو شيء آخر (الظاهر، المظهر). الوجود الحقيقي للوغوس باعتباره أليثيا، يعني تخليص الموجود الذي نتكلّم عنه من انسحابه وجعله لامنسحبا (متكشّفا) أي إظهاره. ونفس الأمر ينطبق على الوجود-الخاطئ، الذي يعني أيضا التّضليل والحجب، أي وضع شيئ ما من أجل بيانه(رئايته) ومن ثمّة تقديمه باعتباره شيئا ما ليس هو.[7] هنا يتدارك هيدغر المسألة فيقول: ولكن إذا كان هذا هو معنى الحقيقة، وإذا كان اللوغوس كيفية محدّدة للرئاية (البيان)، فلا يمكن اعتبار اللوغوس "الموضع" الأصلي للحقيقة. لقد اعتدنا تعريف الحقيقة على أنّها ما ينتمي للحكم، وندّعي أن أرسطو هو صاحب هذه الأطروحة. فالحق بالمعنى الإغريقي الأصيل، هو الاستقبال والتلقّي الحسّي لشيء ما. الحقّ هو التلقي وهو أصلي وأوّلي مقارنة باللوغوس. فالنظر voire يعني الكشف Découvrir ولكن الحق بمعناه المحض والأوّلي، بدرجة أكثر، هو النظر العقلي، النظر الخالص أي فعل التفكير، وهو كشف من المحال أن يكون خاطئا، إنّه مجرّد استقبال لتحديدات الوجود كما هو.
التلقّي إذن نوعان: الحسّي والمحض (الخالص) وذلك تبعا لكيفية النظر. هناك نظر يتمّ عن طريق الحواس، وآخر عن طريق العقل. الأوّل أقلّ مرتبة من الثاني، رغم أنّه حقّ. والتلقّي بالمعنى الثاني لا يمكنه أن يخطئ لأنّه يدرك تحديدات الوجود في بساطتها. إنّ الوجود المحجوب هو المفهوم المكمّل لل"فينومين". وبما أن الفينومين ليس معطى وليس مضمونا في ظاهراتيته كان لزاما علينا انتزاع هذه الأخيرة عن طريق نضال كبير، ذلك ما يبرّر السّمة المنهجية للفينومينولوجيا . فالأشياء في ذاتها ليست معطاة بل ينبغي تحريرها عن طريق منهج يهدف إلى إلغاء كلّ حجب.
انطلاقا من هذا التحديد المفاهيمي لكلمتي فينومين و لوغوس ينتهي هيدغر إلى تعريف الفينومينولوجيا باعتبارها " رئاية ما يظهر انطلاقا من ذاته، بالكيفية التي يظهر بها انطلاقا من ذاته"[8]. فما هو هذا الذي تريد الفينومينولوجيا بيانه ؟ إنّه بالضّبط هذا الذي ينسحب، ما ليس هنا. هذه هي المفارقة: ما يظهر من ذاته وينسحب، وهكذا فنحن مدعوون للانتقال من فينومينولوجيا الظواهر(L’apparent) المفهوم العامي للفينومينولوجيا إلى فينومينولوجيا اللاّظواهر أو الباطن(L’inapparent). فنستنتج أنّه يوجد فينومين واحد فقط بمعناه الفينومينولوجي، والمتمثّل في وجود الموجود. فتتلاقى وتتعانق الأنطولوجيا والفينومينولوجيا ليس فقط لأنّه " لا إمكانية للأنطولوجيا إلاّ باعتبارها فينومينولوجيا" وإنّما أيضا لأنّه لا يمكن أن تتحقّق الفينومينولوجيا إلاّ كأنطولوجيا، طالما نفهم الفينومين باعتباره وجود الموجود، لذلك يقول هيدغر: "الفينومينولوجيا هي العلم الخاص بوجود الموجود-الأنطولوجيا"[9]. وعادة ما تسمّى هذه الفينومينولوجيا الأنطولوجية باسم "الفينومينولوجيا الهرمينوطيقية"، وبهذا المعنى أيضا يتمّ الحديث عن منهرج هرمينوطيقي للفينومينولوجيا مع هيدغر، من حيث أن المعنى المنهجي للوصف الفينومينولوجي يرتبط بالهرمينوطيقا بالمعنى الذي يكون فيه الوصف نتاج عمل تأويلي[10].
فإذا كانت الظاهرة هي ما يظهر كما يظهر انطلاقا من ذاته، فما الحاجة إلى ممارسة الفينومينولوجيا؟ جواب هيدغر هو أن ما هو ظاهرة (ظاهر) يمكن في نفس الوقت أن يكون متخفّيا بواسطة ظاهريته ذاتها. وعند هذه النقطة بالذات تتضاعف الطريقة الفينومينولوجية بضرورات هرمينوطيقية، فالظاهرة لكونها ما يظهر، فإنها تختفي بفعل كلّية وجودها(انتشارها الكلّي) على منوال قصّة الرّسالة المسروقة للنّاقد الأمريكي Edgar Allan Poe التي يتمّ إخفاؤها في مكان ظهورها (فهي غير مرئية لأنها تختفي في فعل ظهورها ذاته). وفي معنى قريب الدازاين يرى ذاته مأخوذا في عالم من المعنى، وهذه الألفة ذاتها هي ما يجعل له هذا المعنى غريبا. من هذا المنطلق تكون الهرمينوطيقا إضافة مشروعة، وضرورية لتوضيح هذا المعنى الذي أصبح بعيدا بفعل قربه. فإذا كانت الظاهرة هي ما يظهر نفسه لنفسه، وأنّه في هذا الظهور ذاته تسكن غرابتها، فإنّ الهرمينوطيقا لا تصبح مجرّد وظيفة مكمّلة، بل نمط التحقّق النّقدي للفينومينولوجيا(*). وفي هذا السياق يؤكّد بول ريكور" أنّ الفينومينولوجيا تبقى افتراض الهرمينوطيقا المتعذّر تجاوزه، لكن من جهة أخرى ليس بوسع الفينومينولوجيا أن تطبّق برنامجها المتعلّق بالتشكّل دون أن تشكّل نفسها في هيأة تأويل ما لحياة الأنا"[11]. وبهذا المعنى أيضا يمكن القول بأنّ الفينومينولوجيا بدون هرمينوطيقا عمياء، والهرمينوطيقا بدون فينومينولوجيا جوفاء". يظهر إذن أنّ هيدغر لجأ في تأسيس مشروعه الفلسفي الأنطولوجي إلى المنهج الفينومينولوجي المدعوم بالمقاربة الهرمينوطيقية بهدف إعادة إحياء سؤال الوجود (الوجود المنسي سواء كان نسيانا للذات كمشروع أو نسيانا للوجود كموضوع أساسي للفلسفة)، ومنه مشروعية الهدم، هدم الميتافيزيقا الغربية.
إن فينومينولوجيا هوسرل الترنسندنتالية كانت مشروعا ابستيمولوجيا خالصا، ونظرية في المعرفة ترجع كلّ الخبرات الإنسانية للوعي وللذّات التي أصبحت مانحة المعنى لكلّ الموجودات داخل العالم، فجعلت بذلك الوعي سابقا على وجود الظواهر. هذا التهميش الذي طال الوجود هو ما ركّز عليه هيدغر الذي أعطى معنى جديدا للفينومينولوجيا بما هي مساءلة للوجود. هذه المساءلة التي تستهدف استعادة وجود الموجود(الدازاين) والوجود ذاته (تجاوز الميتافيزيقا)، أي نقد ميتافيزيقا الموجود من أفلاطون إلى نيتشه.
إنّ مساءلة الوجود تستدعي العودة إلى الذات، لكن الذات التي تنطلق من البعد الزماني وليس من الوعي الخالص. وهذه هي نقطة الخلاف بين فينومينولوجيا هوسرل وفينومينولوجيا هيدغر. هذا التحوّل من المعرفة إلى الوجود هو انتقال من فينومينولوجيا المعنى إلى أنطولوجيا الفهم، وهو تجاوز للطّرح التقليدي لعلاقة الذات بالموضوع من خلال التوجّه نحو الأرضية التي تجمع بينهما، ألا وهي الوجود. ثمّة إذن تحوّل في الفينومينولوجيا من عالم الحياة عند هوسرل إلى الوجود مع هيدغر. لكن هل استطاعت فينومينولوجيا هيدغر إيجاد حلّ للمشكلات المعرفية، بردّها جميعا إلى الوجود ؟
[1] - Martin Heidegger. Etre et Temps. Traduction Emmanuel Martineau. Edition Numérique Hors- commerce .P.49.
[2] -Alain Boutot. Heidegger. PUF . éditions Delta.3em Edition 1995. P.23.
[3] - Martin Heidegger. Etre et Temps P. 13.
[5] - د. عبد الرزاق الداوي، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ط1، 1992، ص.46.
[10] - Jean Grondin , L’herméneutique (Que sais je) , Puf, 2006. P.35.
(* )- حول فكرة منعرج هرمينوطيقي للفينومينولوجيا عند هيدغر، نجده في معرض شرحه لمفهوم الفينومينولوجيا في "الوجود والزمان" فقرة 35-36 بيّن أنّ مبحث الفينومينولوجيا المتمحور حول الوجود مبحث مكتوم، مموّه، خفيّ ومطرود وهو ما يوجب إخراجه من دائرة النسيان هذه. أمّا مفهوم الظاهرة المغاير، فهو الظاهرة المموّهة التي لا تعطى لنا ما يستدعي الحاجة إلى الفينومينولوجيا . ولكي يتحقّق ذلك فنحن بحاجة إلى تأويل مزدوج: موجودي وتاريخي في آن واحد، أي أنّنا بحاجة إلى جهد هرمينوطيقي ،إلى تأويل جديد يهدم ويقوّض التأويلات السابقة/ ينظر جان غراندن "المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا" ترجمة عمر مهيبل، منشورات الاختلاف ط1 2006.ص 35-39.
[11] - بول ريكور، من النصّ إلى الفعل. أبحاث في التأويل، ترجمة محمد برادة، حسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط1. 2001. ص. 43.