04 Jul
04Jul


ماذا بقي من فرانز فانون؟

***  الجزء الأول ***

الأستاذ بن شرقي بن مزيان جامعة وهران2


    ليس غرض هذه الورقة، كما قد يستشف من قراءة عنوانها للوهلة الأولى وضع جرد لما تم لحد الآن من دراسات حول فانون، وإن كان هذا مهم جدا، مثل هذا العمل له أصحابه الذين يجيدون من الناحية العلمية طرق العمل. بل الغرض من العنوان هو تحليل فانون فكرا في ظل ما كتبه هو بنفسه لأجل استبصار حاضر مؤلم نعيشه الآن ونحن نتطلع إلى المستقبل. ولذلك يبدو جليا أن غرض هذه الورقة هو بناء  حاضر قوى كما يقول نيتشه فيلسوف الإرادة.

وعليه أجدني مضطرا من الوهلة الأولى أن أضع أمامكم مسطرة للتصور الذي أريد صياغته حول فانون ونعني به ناحتين تتعلق:

الأولى: بالجانب الأنطولوجي وما يمثله مفهوم الإرادة                

الثانية: الجانب الاجتماعي  ويتمثل في منطق العيش السوي       


   أولا: من الناحية الأنطولوجية أو إرادة الوجود 

   يضعنا فانون اليوم أمام مشكلة تتعلق بإمكانية الحق في الوجود وهو حق رغم تقدم المطالبة بإرساء قواعد جديدة لحقوق الإنسان بما فيها حق الأقليات في اللغة، وفي الممارسة السياسية، وفي الممارسة الدينية إلا أننا مازلنا على مسافة بعيدة مما كان يأمله فانون. وإذا كنا لم نصل بعد إلى هذا المبتغي فمن حقنا أن نتسأل مستعملين فانون لماذا مازالت مثل هذه المطالبة دوما قائمة؟ّ

   في كتاب فانون بشرة سوداء وقناع أبيض تصور لنا فصول الكتاب في حقيقة الأمر صراعا وجوديا لكائن أو ذات مجروحة un sujet brisé هذه الذات وإن كانت تتوزع بين اللغة والجندر والمعيش والاعتراف والزنجية، كما هو مبين في عناوين فصول الكتاب، فإنها ذات un sujet لا تبحث عن لون كما لو أنه صفة، ونحن نعلم أن الصفة ليست جوهرا أساسيا سواء عند القدماء كما هو الحال عند أرسطو أو عند المحدثين كما هو الحال عند كانط. بل عن اعتراف بالصفة النوعية الجوهرية لها على أنه إنسان كائن بشري، وهذا ما يدفعنا للسؤال الثاني لماذا أصبحت الصفة النوعية الجوهرية مطلبا عند فانون؟

 تحلينا هذه المعضلة الأساسية في فكر فانون على مسألتين تتعلق الأولى بمصدر هذا التحويل أو الإبدال وعن تمثلاته وهو ما يعبر عنه في قوله"" ""الأسود لا يجب أن يوضع أمام هذا المشكل العويص: أن يبييض أو أن يزول ولكن يجب أن يكون بإستطاعته وعي إمكانية الوجود بكيفية أخرى إذا ما وقف في وجهه المجتمع  نظير لونه فإذا ما لاحظتُ في أحلامه معنى ما لرغبة غير واعية لتغير لونه لا يكون  هدفي ردعه  بنصيحة أن يتراجع عما يريد الإقدام عليه ، هدفي بالعكس سيكون  بأن أضعه  في مستوى اختيار الفعل أو عدم الفعل في مقابل  المصدر الحقيقي للصراع أي في مقابل البنيات الاجتماعية"([1]) ثم يواصل  في نفس المضمار مؤكدا على نفس الفكرة حيث يقول "طالما أن الأسود  يقطن مسكنه لا يحدث  له ، سوى في حرب داخلية ، هذا الأمر أن يبرهن عن وجوده للآخر.  هنا بطبيعة الحال تتحقق لحظة الكائن للغير الذي يتحدث عنه هيجل، ولكن كل أنطولوجية تصبح غير قابلة للتحقق في مجتمع مُستعمر ومُتمدن. يبدو بأن هذا الأمر لم يشد انتباه ممن كتبوا عن هذه المسألة بالقدر الكافي حيث يوجد في عالم الشعب المُستعمَر تلوث وشائبة تمنعان كل تفسير أنطولوجي"" ([2]) 

 

ولمعالجة هذا الوضع يعول فانون كثيرا على تعميق البحث في الروابط والعلاقات الممكنة بين الصفة المفترضة من خلال لون البشرة التي ترد في خطاب المُسْتعمر وعلى الصفة النوعية الجوهرية. ولذلك قام على مستوى الخطاب المؤسس لفكره بهذين الإجرائيين:

 


    فأما الأجراء الأول فإنه يتمثل في الوجودية وفلسفة الإرادة كفلسفات للتحرر وذلك من منطلق تخصصه، علم النفس العيادي، وهذا ليس أمر غريب عن الفلسفة الوجودية لأنها فلسفة قائمة على هذا الهدف هدف التحرر. ولكن الخفي داخل هذا الإبدال هو أن فانون لا يجعل منه فقط فلسفة للدفاع عن الوجود أو إمكانات تحققه كما كانت دوما حركات التحرر بل ميكانيزما للبناء الداخلي للذات من خلال الدعوة لعدم الاعتراف بالزنجية على أساس أنها صفة لنوع بشري مختلف عن الأبيض. حيث يقول "" أنا أسود، أحقق إنصهارا كاملا مع العالم، ومؤانسة جذابة للأرض، ومن ذاتي ضياع في قلب الكون، والأبيض، إن يكن من بعض الأذكياء، لا يفهم أرمسترنوغ أغاني الكونغو؟ إذا ما كنت أسودا ليس تبعا لغضب إلهي ولكن لأنني حينما عرضت بشرتي تمكنت من أن ألتقط كل بخار الكون. فأنا فعلا ومضة من الشمس في الأرض.""([3]) ليضيف قائلا "" الأمر يتعلق بهل بإمكان الأسود أن يقفز عن إحساسه بالقصور وأن يطرد من حياته طابع الإكراه الذي يعيده لسلوك مرضي. عند الزنجي يوجد تفاقم عاطفي ولهث بأن يشعر صغيرا، وعدم قدرة على كل توافق إنساني الذي يسجنه في جزيرة صغيرة غير محتملة"" ([4])  

إن المتتبع للنصين: كتاب بشرة سوداء وقناع أبيض، أو كتاب المعذبون في الأرض يكتشف بأن مصدر هذا التحول يأتي من مجموع الفلاسفة الذين يعتمد عليهم فانون. ([5])


 هذه المجموعة وأخرى تتميز داخل حقل الفلسفة بميزات عديدة لا يسعنا ذكرها هنا لأنها ليست محور الورقة التي نريد تقديمها وإنما نكتفي بميزتين: تتعلق الأولى منها بفكرة تحرير الذات من قهر التاريخ المفروض أمامنا أي هي فلسفة تدعو من خلال إعادة النظر في علاقة العبد بالسيد ،هيجل، أو بإعادة تحطيم تاريخ العلاقات العنكبوتية، نيتشه، ثم رافد ثالث وهو غربايل مارسيل وسارتر الذين يمكن أن نتلمس من خلالهما تاريخ النزعة الداخلية للوجود من خلال انعكاس الذات على نفسها.


  ليست هنا لأذكر بهذه المقاطع أو حتى بهؤلاء الفلاسفة لأن الجميع ربما يعرف هذا وإنما لأبين أن حاجة فانون لهؤلاء  كانت لمعالجة الإشكال المطروح في عنوان كتابه نفسه ، بشرة سوداء وقناع أبيض، وهو نص يقع في مستوى البيان الفلسفي للدفاع عن حقوق النوع البشري. لا أقول حقوق الإنسان لأن فانون لاحظ بأن الأمم التي رفعت شعار حقوق الإنسان، والحرية، والعدالة وهي شعارات براقة هي التي تقوم في الوقت نفسه بتقسيمات زولوجية للنوع البشري.



  ولذلك أراد من خلال البيان، بشرة سوداء وقناع أبيض، أن يدفع ويدافع عن تحقق انطولوجي لمن يدعى تحديد النوع البشري من خلال اللون كصفة جوهرية حيث يقول ""الأنطولوجية التي  قبلنا بها مرة وللكل أن تترك جنبا  الوجود لا تسمح بفهم الكائن الأسود. لأن الأسود  لا يريد أن يكون أسودا ولكن أن يكون في  مقابل الأبيض (...) الأسود في نظر الأبيض لا توجد لديه مقاومة أنطولوجية. الزنوج من يوم لآخر...  "" ([6]) 

 

توضح لنا الفقرة السابقة  ذلك التوجه الجديد لفانون في محاولته لبناء تصور أنطولوجي يسمح بإعادة فهم علاقة النوع البشري دون إلحاق لصفة اللون على اساس أنها جوهرية ضمن مفهوم الجوهر النوع الذي يريد إعادة صياغته بحيث أن تلك الإضافة التي تحملها الصفة ( صفة أبيض) على الجوهر ( إنسان)، في مدلول الخطاب الإستعماري هي التي عملت على محو الذات المُستعمرة دون غيرها من الذوات. 


  ليس غريبا أن يأتي ذلك من فانون المتشبع بروح التحليل النفسي والذي حمل على نفسه أن يسير في غير إتجاه علم النفس الإستعماري, لأن الإضافة Relation ليست بحاجة لجوهر(الانية) substance فالإضافة قابلة للتغير  ولأن لا تاريخ لها بينما العلاقة rapport فإنها جوهرية في تأسيس الذات، ولذلك يقول فانون  ""في المستعمرات، البنية الإقتصادية هي واقع الحال بنية فوقية. السبب مهم نحن أغنياء لأننا بيض ولأننا بيض فنحن أغنياء، ولذا فإن التحليلات الماركسية يجب أن تكون دوما  مطاطة شيئا ما حينما نريد مقاربة المشكلة الإستعمارية."" ([7]).

 

  ولكي نفهم جيدا هذه الصيغة لا أريد أن أعود إلى ما ألفناه سابقا من تحليلات ماركسية في مقابل أخري رأسمالية أو العكس أريد أن أمدد التأمل في المشكلة التي يطرحها فانون في نفس الاتجاه الذي كان من المفروض أن تعرفه الإشكالات المطروحة ضمن البيان بشرة سوداء وقناع أبيض،  علينا أن نـتأمل واحدا من الوجوديين الذين لم يحضر  في نص عند ألا وهو هيدغر.


  يعلق هيدغير كثيرا على العلاقة rapport لا على الرابطة Relation بين الكينونة والزمان Etre et Temps من حيث أن الكائن يصير كائنا حينما تتحقق تاريخيته """إن الهيئة الأنطولوجية-الوجدانية لجملة الدازين إنما تجد أساسها في رحم الزمانية. وتبعا لذلك فإن ضربا أصليا من تزمن الزمانية الوجودية ذاتها هو الذي ينبغي أن يجعل الاستشراف الوجودي للكينونة ممكنا بعامة... ""[8].

 

   ومن ثمة يمكننا أن نقول أن فانون استخدم هذه الأدوات الإجرائية، أو كان بالإمكان إستخدامها، ليرد على من يدعى أن الزنجية أو اللون هو المحدد للكائن.  لذلك في رأينا يفضل فانون الأفرقة Africanitéعلى الزنجية négritudeعلى عكس سانغور أو إيميي سيزار، وهو تحرر وجودي من عبودية الاستعمار باعتباره إقصاء للذات كما لو أنها كائن مستقل متفرد. وذلك يدعو فانون لإنعتاق الوجود من العدم من خلال الاستعمال الفعال والمبرمج للعنف كمقاومة. وعليه يسمح هذا الإبدال لفانون لاحقا بأن يجعل من الاعتراف بالغيرية صورة من صور الوجود المتناغم ليس مع الغير فقط وإنما مع الذات كما هو واضح في فلسفة  إمانويل ليفانس.


 هذا التصور يسمح لنا اليوم، واليوم بالذات بأن نستخدم لغة فانون في محاورة الآخر في إطار وضع حد لهيمنة الثقافة الواحدة وأحادية النظرة للإنسان التي تسوقها وسائل الإعلام والأدبيات الحربية في ظل ما يسمى بعولمة الخصوصيات. إن الاعتراف بالخصوصية من حيث أنها ينبوع الوجود هو الدرس الذي يمكننا أن نقر الآن بأنه من خلاصة فكر فانون الذي  يبقى صالحا لكل زمان للحد من استخدام القوة في إطار الإبادة الإستعمارية.([9])  

 

  أما فيما يخص التمثل أو الإبدال الذي يقوم به فانون فإنه يمثل إحدى الصور للتفكير في مسألة الغيرية من زاويتين: تتعلق الأولى بضرورة الانعكاس على الذات وتأملها، وأما الثانية فتقوم على الاعتراف بالآخر من خلال النضال تحت غطاء فكرة العيش السوي أو العيش معا. 


 بالنسبة للأولى يحتاج فانون لتمرير أفكاره مصوغا وجوديا آخرا لقي شهرة وقتها ونعني به جون بول سارتر والذي قدم له كتاب المعذبون في  الأرض سنة 1961،  حيث يذكر سارتر ما نصه"" .العنف الإستعماري لا يعطي لنفسه فقط  هدف الإمساك باحترام هؤلاء الناس المستعبدون، بل يبحث على هتك إنسانيتهم. لا شيء سيدبر لاقتلاع تقاليدهم، ولتغير لغاتنا بلغاتهم، ولهدم ثقافتهم بدون أن نمنح لهم ثقافتنا إننا نرهقهم بالتعب""([10]) ولذا يبدو حق الإعتراف بالخصوصية في مبادئ الثورات المناهضة للاستعمار منبعا لتشكل الذات بل للاعتراف بالوجود المتوحد للكائن البشري بصفته جوهرا. وتأكيدا لذلك يقول فانون ""الإنسان الذي يملك لغة يملك بالمقابل العالم المعبر عنه والمندمج في هذه اللغة (...) يوجد في إمتلاك اللغة قوة عجيبة (...) نعم مثلما نلاحظ ذلك، نطلب من الإنسانية، إحساس بالكرامة، وحب ورحمة فيكون من الأسهل أن نثبت  وأن نعمل على تقبل أن الأسود مساو للأبيض. ولكن هدفنا هو على خلاف ذلك ما نريده هو أن نساعد الأسود بأن يتحرر  من ترسانة تعقيدية complexuel  التي تم زرعها في الوضع الإستعماري"" ([11]).

على الأساس هذا الهدف ترتسم أفق التمثل التي يريدها فانون في امتلاك الكائن لكينونة اللغة باعتبارها وسيلة للتعبير عنه، ووسيلة لتمكنيه من الانصهار في العالم حيث يقول  "" الإنسان هو حركة نحو العالم ونحو مثله، حركة عنف التي ترافق  الرق أو الغزو، حركة حب تمنح للذات عنوان آخر لما يمكن أن نسميه توجيه أخلاقي"" ([12]). 

   وهذا الوضع اللغوي ينعكس على السلوك، سلوك الأسود إتجاه الأبيض ولذلك يحرص فانون على أن يعمل بدون هوادة على تحرير أنطولوجي للكائن من قيود الرابطة التي يريد أن يلحقها المستعمَر بالعلاقة المؤسسة للنوع من حيث أنه جوهر.  إن الوضع الذي يجد نفسه فيه الأسود وضع  ""  تقلص الأنا على أنه صيرورة دفاع ناجحة وضع مستحيل بالنسبة للأسود. يجب أن تمر ذلك بعقاب الأبيض له""  هذه الصورة الدرامية تمثل لنا ابشع صورة يخلفها المستعمر في  ذهن المستعمر اي صورة الأوهام المتعلقة بأنماط التفكير والتي تؤثر بدون شك على ميكانيزمات التحرر الفكري. لقد حرص المستعمر أن يلحق ضررا ليس كما تمثله  الأدبيات السابقة بالوجود فقط وإنما إبادة لسانية    génocide linguistique. ([13])


انتظرونا في الجزء الثاني حول:

الجانب الاجتماعي  ويتمثل في منطق العيش السوي 

 

[1] F.Fanon, Peau noire masques blancs, Ed Seuil, P 81 

[2] -Ibid P 88.  

[3] _Ibid, 36  

[4] -ibid P 40

[5]  يذكر مثلا في  سارتر ص 33  ص93  ص 95   أنة فرويد ص 40 هيجل 76  ص 88  

[6] - ibid, P 88, 89

[7] - Les Damnées de la terre P 43 Violence 

 [8] - مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، مراجعة غسماعيل المصدق، ط1، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، 2012، ص 740 .

 

( La constitution ontologique existentiale du Dasien tout entier se fonde sur la temporellité. Aussi est-ce une forme originale de temporation de  temporation de la temporellité ekstatique elle-même qui doit rendre finalement possible la projection ekstatique de l’être en général.) M. Heidegger, Être et Temps, Gallimard, &83, 437.


[9]  أنظر فانون  الفصل الرابع، الصفحة 72 و 73 من كتاب بشرة سوداء وقناع أبيض فحوي المرافعة التي يقوم بها في هذا الإتجاه والإتهامات بالجرائم التي يوجهها للإستعمار والنزعة  الاستعمارية 

[10] _ Fanon les damnés de la terre préface de sartre, p p 23, 24.

[11] Fanon, Beau noir, PP, 14-24.

[12] Beau noir, P 33.

[13] Voir, Ibid, P 41, P 48, P 67 une description de cette situation.

   


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة