23 Jul
23Jul


الحجاج: التحدي الأكبر في إصلاح الدرس الفلسفي 


د.سرير أحمد بن موسى (المركز الجامعي عين تموشنت)

مخبر الفلسفة وتاريخ الزمن الحاضر. جامعة وهران 2

 

إذا كان ثمّة تحدّي يواجه اليوم المهتمّين والمشتغلين بالحقل الفلسفي عموما، وديداكتيك الدرس الفلسفي خصوصا، من باحثين وأكادميين، ومفتشين وأساتذة...فلا شكّ أنه ذلك المتعلّق بضرورة تحديث وإصلاح الدرس الفلسفي تماشيا مع تطورات وإنجازات مختلف حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية (علم النفس، علوم التربية، فلسفة، لسانيات النص، تحليل الخطاب، ديداكتيك.....). وإذا احتكمنا لمنطق الأوليات في هذا الإصلاح، فإن الحقل الحجاجي يأتي على رأس الأولويات الإصلاحية للدرس الفلسفي، ليس فقط لأن الحجاج هو قوام التفلسف الذي يهدف إلى الإقناع، بل ولأن الدرس الفلسفي عندنا لا يوفّر أي إطار نظري للممارسة الحجاجية في الحصص التطبيقية، خاصة في ظلّ إدراج ما يسمّى بالمقاربة النصّية في المنهاج التربوي. من هذا المنطلق سنخصّص هذه الورقة لمناقشة موضوع الحجاج الفلسفي ديداكتيكيا.

أن نتكلّم معناه أن نتخاطب، وأن نتخاطب معناه أن نتحاجج، سواء كان ذلك في إطار الحياة العامة أو الخاصة. المحادثة مهمة وضرورية، ونحن نتحادث ونتناقش في مختلف الموضوعات والقضايا. يتعلّق الأمر في الغالب بالحجاج، بالدفاع عن وجهة نظر مقابل وجهات نظر أخرى. ومن زاوية تواصلية يمكن القول أن كلّ خطاب يحمل دعوى يقابلها اعتراض، هناك قصد الادّعاء وقصد الاعتراض. المخاطب (بكسر الطاء) مدّعي عليه إقامة الدليل  والمخاطب (بفتح الطاء) معترض يطالب المدّعي بتقديم الدليل على قوله.

الحجاج إذن ماثل في كل الخطابات التي يتواصل بها الناس، في السياسة  كما في التجارة، وفي مختلف أشكال التواصل اليومية.الكلّ يستخدم الحجاج ويمارس فن الإقناع.  ولمّا كان الحجاج مرتبطا بالخطاب والإقناع Persuasion فهو لاشكّ شديد الصلة بالبلاغة Rhétorique من حيث هي فنّ العبارة Rhetorica/ Art oratoire . والبلاغة تعني التحكّم في إمكانات اللغة لأجل التواصل مع الآخرين وإقناعهم بوجهة نظرنا. ورغم أن اهتمام البلاغة القديمة انحصر في الجانب البياني، المعياري التعليمي الذي يساعد على الكتابة والإنشاء والخطابة ، فاعتبرت بذلك أداة للإبداع، ووسيلة للتفنّن في الكتابة قصد الوصول إلى تأليف الكلام السامي، أداة لاكتساب ملكة الفصاحة والبلاغة والبيان، إلاّ أن التحوّلات التي شهدها الدرس البلاغي مع سنوات الأربعين والخمسين من القرن العشرين خاصة بعد صدور مؤلّف "مصنّف الحجاج: البلاغة الجديدة" لشاييم بيرلمان (1912-1984) ولوسي ألبرخت تتيكا (1899-1987)، وكتاب "استخدامات الحجاج" لستيفن تولمين (1922-2009)، وكذا استثمار نتائج النظريات التداولية، مكّنت من توسيع مجالات تطبيق البلاغة لتشمل كلّ أنواع الخطاب، كالخطاب اللغوي العادي، الخطاب الفلسفي، السياسي، الديني، ألإشهاري وغيرها.

وعلى الرغم من كلّ هذه التطورات التي حملها الدرس البلاغي المعاصر، والتي وضعت العديد من التخصصات أمام حتمية مراجعة وتكييف موضوعاتها ومناهجها، مازال الدرس الفلسفي عندنا يشتغل بآليات تقليدية- يغلب عليها الطابع البرهاني لا الحجاجي-  ويتخلّف عن مواكبة هذه التطوّرات. ولا أدلّ على ذلك من المفارقة التي تتضمّنها مناهجنا التعليمية بخصوص موضوع الحجاج. فهي تطالب التلميذ أو الطالب في الاختبارات والامتحانات الرسمية بتحليل نص فلسفي ذو طبيعة حجاجية ( الكشف عن البنية الحجاجية للنص، ورصد مختلف الحجج)، وبإنتاج مقال فلسفي حجاجي ( تبني استراتيجية حجاجية معينة و دعمها بالحجج) دون أن يتلقّى درس الحجاج. لذلك نرى أنه من الضروري أن ينفتح الدرس الفلسفي اليوم على هذه التطورات في الحقل الحجاجي ليستثمر منجزاتها، ويقطع مع الشكل التقليدي الذي اختزل الخطاب الفلسفي وقضاياه في الاستدلال البرهاني المنطقي فقط. ولدوافع ديداكتيكية محضة- تراعي مقتضيات روح التفلسف (أشكلة، مفهمة وحجاج)- سنحاول انطلاقا من مفهومي الحجة والحجاج، أن نعرّف  بالطبيعة الحجاجية للنص الفلسفي، وأصناف الحجج التي يتضمّنها، وما ترتكز عليه من مؤشرات وروابط لغوية تحقق وحدة النسيج Texture.   

فما الحجة وما الحجاج؟ وما الذي يجعل من النص الفلسفي نصا حجاجيا؟ وما هي أنواع الحجج في النص الفلسفي؟ وما هي مؤشرات البنية الحجاجية داخل النص الفلسفي؟

1- مفهوم الحجة والحجاج

حجّة Argument جمع حجج وحجاج، وهي الدّليل والبرهان، والحجّة هي استدلال يرمي إلى برهان قضية معيّنة أو دحضها[1]. أمّا الحجاج Argumentation فهو مسرد من الحجج تنزع كلّها إلى الخلاصة ذاتها أو هو طريقة عرض الحجج وترتيبها. الحجاج إذن يتضمّن إلى جانب الحجّة، فعل الحجاج l’acte D’argumenter. الحجة تحدّد فقط البنيات الخطابية الخاصة التي يتجسّد فيها فعل الحجاج[2].  يعرّفه ميشال مايير فيقول: "يعرف الحجاج عادة بكونه جهدا إقناعيا (إفحاميا). ويعتبر البعد الحجاجي بعدا جوهريا في اللغة لكون كلّ خطاب يسعى إلى إقناع من يتوجّه إليه"[3]. الحجاج إذن ملازم لكلّ خطاب (بلاغي، قضائي، فلسفي....إلخ). والحجاج الفلسفي هو سلسلة من الحجج المرتبة وفق استراتيجية معينة من قبل الفيلسوف من أجل الإقناع ، بفكرة ما أو دحضها. فالحجاج هو فنّ الإقناع أمّا الحجاج الفلسفي فهو فنّ الإقناع العقلي والعقلاني.

 

الحجة موجّهة لإثبات أطروحة أو دحضها ولهذا فهي ترتبط بالدليل أو الاستدلال، وبالبرهنة والإقناع والاقتناع. فالدليل يتخذ صورة استدلال تصير النتائج فيها منسجمة مع المقدمات التي انطلقت منها، كما يحيل على الواقع المادي حيث تصبح الأحداث بموجبه أدلة. ما يجعل البرهان يتراوح بين الاستنباط والاستقراء.

 

والحجاج لا يستند إلى العلاقة الاستدلالية، وإلاّ لما ميّز بينه وبين المنطق، ذلك أن ماهيته تستند إلى العلاقة المجازية، أي أن مجال الحجاج هو الخطابة وهي حقل الممكن والجائز والمحتمل، في حين أن مجال الاستدلال هو المنطق وهو حقل الصائب والحقيقي، لهذا فإن تحقيق الاقتناع وهو غاية الحجاج، يقع في منطقة وسطى بين الاستدلال والإقناع Persuasion، فالاستدلال عناصره أحادية المعنى لا تثير اختلافا، بينما تظلّ الحقيقة في الحجاج نسبية وذاتية، وهي مرتبطة بالمقام، وتخضع لحكم الجمهور المتلقّي، سواء كان كونيا أو خاصا[4].

 

 على هذا الأساس تذهب نظرية البلاغة الجديدة أو نظرية الحجاج(بيرلمان وتتيكا) إلى القول بضرورة استكمال نظرية البرهان في المنطق الصوري بنظرية الحجاج التي تتولّى دراسة الاستدلالات الجدلية التي تسعى إلى قبول أو رفض الأطروحة المتنازع حولها، فإذا كان البرهان ينطلق من الحقيقة الواضحة، فإن الحجاج ينطلق من الرأي المحتمل الذي يستمدّ قوّته من قبول الناس له. وعلى هذا النحو فإن الحجاج ضروري بالنسبة إلى المجالات العملية كالأخلاق والسياسة، حيث لا يمكن تجنّب الاختيار والتناظر حول الرّأي الأفضل والأقوى لذلك فنحن أمام حجاج برهاني مجازا لا حقيقة، وأننا أمام أفعال لسانية تركيبية وتداولية ذات وظيفة حجاجية فعلا، إلاّ أنها خضعت للمسة الفيلسوف ولشيطان عطائه. ففي النصوص الفلسفية تلتحم الأطروحات والأحكام بشتى أنواع الاستنتاجات والاستقراءات، وبباقي الاستدلالات الحجاجية على قاعدة تدابير لسانية وأسلوبية. والطابع الحجاجي للاستدلال الفلسفي لا يشكّل سوى وجه واحد من وجوه الخطاب الفلسفي كمعرفة وكتفكير فلسفي. فالماهية الفلسفية للاستدلال الحجاجي مستمدّة- تفاعليا وعضويا- من طريقة خاصة في إبداع المفاهيم أو إعادة استعمالها، وطريقة خاصة في المساءلة. وتلك هي الأبعاد الفلسفية الرئيسية للنص الفلسفي (الأشكلة Problématisation،المفهمة  Conceptualisation والمحاجة Argumentation ).

 

2- أنواع الحجج في النص الفلسفي

 

رغم أن الحجاج ليس هو البرهان Démonstration كما أشرنا سابقا إلاّ أنّنا نجد في الحجاج، والحجاج الفلسفي خاصة، عدّة أنواع من تقنيات الاستدلال المستخدمة في البرهان، ولكن بطرق لا تطابق دائما الأشكال المجرّدة التي توجد بها في مجالات تطبيقية أخرى كما في المنطق والرياضيات مثلا. إذ لا ننسى أن الحجاج لا يمارس إلاّ في اللغة الطبيعية، "فاللغة الطبيعية هي المكان الأمثل للخطاب الفلسفي" على حدّ تعبير هيبوليت.

 

إن المحاجة تتوجّه في الغالب إلى إثبات أو نفي أطروحة ما. ولهذا فإن واضع الحجج (صاحب النص) ينطلق، قبل كلّ شيء، من موضوع محدّد، ويتبنّى رأي خاص حول هذا الموضوع، حيث يعرض ويبني استدلالا كاملا ليؤكّد مصداقية رأيه، فهو إذن يدافع عن أطروحة، إذ غالبا ما يتمّ إبراز تلك الأطروحة بشكل واضح قبل الشروع في عملية الاستدلال. ويمكنه كذلك أن يفنّد أو يدحض أطروحة ما، وذلك يبين عدم تماسك أسس تلك الأطروحة [5]. ويمكن تصنيف الحجج الفلسفية إلى ثلاث حجج رئيسية تتفرّع بدورها إلى حجج فرعية وهي: الحجج المنطقية (ومنها الاستدلال الاستنباطي، والاستقرائي، والاستدلال بالمماثلة، وبالخلف، وبالمثال)، والحجج البلاغية (ومنها الاستعارة، المجاز، التشبيه والتمثيل)والحجج الواقعية (منها حجة السلطة، الوقائع الاجتماعية والتاريخية). وسنقتصر هنا على ذكر بعض أنواع هذه الحجج والتي تحضر بقوة في النص الفلسفي.

 

2-1- حجة المثال:وظيفة المثال هي إسناد الفكر وبلورته، فهو يدعم الحجاج ولا يعوّضه. المثال يضفي مضمونا على الفكرة، أي أنه ما يسمح بالابتعاد عن المجرّد والارتباط بالواقع. يجب إذن عدم الخلط بين المثال والحجاج، وهو ما أشارت إليه "جاكلين روس" حيث بيّنت أن المثال لوحده لا يقوم لا برهانا ولا دليلا إن لم يسبقه اشتغال مفهومي ومنطقي، فقيمة المثال تكتسب من علاقته بفكرة نظرية. أمّا شاييم بيرلمان" فيرى أن دور المثال هو تقوية أو دعم الارتباط بقاعدة معروفة ومقبولة، وذلك بتقديم حالات خاصة تضيء الفكرة العامة وتبيّن أهمّيتها عبر تنوّع تطبيقاتها الممكنة، وتزيد حضورها في الوعي. ومن هذا المنطلق يتميّز المثال في نظر "بيرلمان" عن الشاهد الذي يضطلع بمهمّة تأسيس القاعدة[6].

 

2-2- حجّة السلطة:تغطّي حجّة السلطة كلّ الطرائق التي ترتكز على حشد سلطة إيجابية أو سلبية مقبولة من المتلقّي والتي تدافع عن الرّأي الذي نقترحه عليه أو ننتقده[7]. فصاحب النص يلجأ إلى نصوص، أو أقوال للاستشهاد، يلجأ إلى سلطة علمية أو أخلاقية أو دينية...إلخ.

 

2-3- حجّة القيم:ترتبط بحجج الاشتراك أي بمجموع المعتقدات والقيم المشتركة مع المتلقّي. صاحب النصّ يستحضر هنا قيم جمالية أو أخلاقية خاصة بجماعة معيّنة.

 

2-4- حجة المقارنة: ترتكز على المقارنة بين الأشياء بالنظر للواحد منها من زاوية الآخر. فتكون حجج المقارنة متميّزة عن حجج التماثل والتناسب، فعندما نقول مثلا "خدّيها حمراوان مثل الورد"، فنحن هنا نقارن بطريقة تبدو أنها تشكّل حجة أكثر ممّا هي مجرّد حكم مشابهة أو تناسب، ففكرة الوزن متضمّنة في مثل هذا القول وإن انعدم مقياس ترشيحه.لذلك حجج المقارنة هي حجج شبه منطقية[8].

 

2-5- حجّة البلاغة: من بين الحجج التي نصادفها كثيرا في النصوص الفلسفية تلك التي توظّف التشبيه، والمجاز والاستعارة. وقد أكّد أرسطو أنّ التمثيل هو أفضل تعبير عن الاستعارة قائلا:"من ضمن الأنواع الأربعة للاستعارة يستمتع- على الخصوص – بتلك القائمة على التمثيل"[9] . أما الأنواع الأخرى للاستعارة هي: النقل من الجنس إلى النوع، والنقل من النوع إلى الجنس، ومن النوع إلى النوع (العلاقة الاستعارية هي أدلّ ضروب المجاز على ماهية الحجاج)[10].

 

2-6- أنماط البرهان:البرهان هو مجموعة من الحجج توضع لإقناع شخص ما، ولإثبات أو إبراز شيء ما، وهكذا فهو يبني سلسلة أو متوالية من القضايا المرتبطة فيما بينها، والتي تنتهي إلى نتيجة.

 

أ- البرهان الاستنباطي: ينطلق من مبدأ معيّن، لينتهي إلى نتيجته المنطقية. ويطبّق قاعدة ما على حالة خاصة ليستخرج منها نتائج محدّدة، وهو بذلك يعبر من العام إلى الخاص.

ب- البرهان الاستقرائي:ينطلق من معطيات خاصة(حدث أو تجربة) لينتهي إلى نتائج أكثر عمومية. وهو بذلك يستخلص من حالة خاصة قاعدة عامة.

ج- البرهان الإضرابي:Concessif يقوم فيه واضع الحجاج بمنح نوع من الاعتبار لحجج الخصم، ليدافع بالتالي عن حججه الخاصة بحرية أكثر:إنه يقرّ بالقيمة الجزئية  للأطروحة المضادة، لكي يدحضها أو يفنّدها بشكل أحسن على مستوى آخر[11].

 

يبدو ممّا سبق أن مجال أنماط الحجج الفلسفية واسع يشمل مختلف الوسائل أو الأدوات المعتمدة قصد الإقناع أو الإثبات أو التفنيد. ونظرا لاختلاف أنماطه البلاغية، والواقعية والاستدلالية المنطقية، فإنّه يعتبر في الفلسفة أحد الأهداف الإستراتيجية التي يجب مراعاتها عند قراءة النصّ الفلسفي تفسيرا وتأويلا. ولن يتحقّق ذلك ما لم نقف على جملة المؤشرات الحجاجية داخل بنية النص.

 

3- مؤشرات البنية الحجاجية داخل النص الفلسفي:

 

إنّ المطلب الديداكتيكي حين الاشتغال على النّصوص داخل الصّف، يقتضي الاهتمام بالمؤشّرات اللغوية داخل النص، سواء تعلّق الأمر بالحجاج المنطقي أو البلاغي أو القائم على بنية الواقع، إذ لا يمكن الحديث عن نصّ فلسفي حجاجي في غياب هذه المؤشّرات اللغوية، خصوصا إذا استحضرنا مفهوم النص باعتباره نسيجا Texture يتألّف من جملة من الرّوابط المنطقية واللغوية. ويمكن رصد هذه المؤشّرات حسب ما تقدّمه نظريات الحجاج المعاصرة في ما يسمّى بالأفعال الذهنية والمبادئ الحجاجية، والعوامل الحجاجية والمقدّمات الحجاجية.

  

3-1- الروابط المنطقية: الكلمات أو الروابط المنطقية لا تتضمّن في الواقع أيّ معنى في ذاتها، من حيث أنها لا تدلّ على موضوعات في العالم الخارجي، بل على علاقات منطقية مثل: ليس، لا، لكن، و، أو، إذن....)

 

روابط النفي: مثل ليس، لا.. هي روابط تشير إلى السّلب داخل النص الفلسفي، والذي يحيل بدوره على فعل التفنيد والدّحض، إلى جانب أدوات الإضعاف والاعتراض(لكن، إلاّ أن...). لكن النفي يؤدّي وظيفة أكثر شدّة من الإضعاف، تستهدف حجج دعوى يراد تفنيدها.

 

روابط الفصل: (أو، أمّا، وأمّا...) مدلولها عقلي أو بالأحرى سيكولوجي، يحيل على حالة التردّد بين إمكانات متعدّدة، وهو ينطوي على وظائف هامة تتمظهر في عملية المقارنة من أجل الفصل لطرف دون الآخر. كما يؤدّي وظيفة التقابل التي حدّدها أرسطو في جدول التقابل (التداخل، التضاد، الدخول تحت التضاد، التناقض).

 

روابط كلّ وبعض: تسمّى بلغة المنطق السور، ويستخدم هذا الرّابط عادة كلحظة نحو التعميم،أي الانتقال من الجزء إلى الكلّ. فقط أنّ المقدّمة التي تتضمّن الرابط "بعض" يمكن التحقّق منها فعليا عند تحليلها، بينما المقدّمة التي تتضمّن الرابط"كلّ" يصعب التحقّق منها فعليا، وهو ما يعبّر عنه أنصار المنطق الرّمزي (برتراند راسل) "بأن الكلّية يدخل الشرط في تركيبها ولا تقرّر وجود الموضوع، والقضايا الجزئية يدخل الوصل في تركيبها وتقرّر وجود الموضوع".

روابط الشرط: (إذا، إذن...) تعبّر عن صورة استدلالية تفترض مقدّماتها سلفا نتيجة مترتبة عنها. ويمكن أن يستعاض عنها بكلمات مطابقة لها من حيث الدلالة المنطقية كقولنا: وعلى... وبالتاي....

روابط العطف والوصل: هي أدوات توظّف للربط بين قضايا النص أو تمفصلاته(فقراته). الواو للجمع والاشتراك، الفاء للترتيب والتعقيب، ثمّ للترتيب مع طول المهلة، حتّى للدلالة على أن المعطوف جزء من المعطوف عليه، بل للاضراب وهي تنفي ما قبلها وتثبت ما بعدها[12].

روابط التمثيل: وهي من قبيل: نحو، من ذلك، مثال على ذلك، مثلا، على سبيل المثال.

روابط السببية: وهي من قبيل:لأنّ، بما أنّ، سبب هذا، لكونه، لأجل ذلك، لكي، من هنا، بناء على ذلك، بحجة..

روابط التعليل: ومنها: لذلك، لذا، إذن، نخلص إلى، وأخيرا، في الختام، لام التعليل، لأجل ذلك، نستنتج، وهكذا...

الرابط لكن: يتضمّن هذا الرابط صورا من الأساليب الحجاجية، أهمّها التقابلات في كلّ أوضاعها (تضاد/تناقض/دخول تحت التضاد/تداخل)، حيث تكشف عن أوجه الانفصال بين مكوّنات قضوية أو مفاهيم بغرض ترجيح طرف على حساب الآخر.       

يتّضح إذن أن اللّغة الطبيعية لا تختزل وظيفتها في التبليغ والوصف فقط بل تحتوي على وظيفة حجاجية، وهي ثرية بأساليبها، ولا يمكن حصرها كلّها في هذا المقام، لكن أشرنا إلى أهمّها وأكثرها حضورا في النص الفلسفي.  

                                                   

3-2- العوامل الحجاجية: إن وظيفة العوامل الحجاجية داخل النص الفلسفي هي تقييد وحصر الإمكانات الحجاجية لتصوّر ما. فهي لا تعمل على الوصل بين المقدمة وما يترتّب عنها من نتائج، بل هي تكتفي بتوجيه المتلقّي الوجهة التي يريدها الكاتب. وتعدّ العوامل الحجاجية إلى جانب الروابط الحجاجية مؤشرات على البنية الحجاجية للخطاب الطبيعي عامة والنص الفلسفي خاصة. فمن خلالها يتمّ توجيه المتلقّي نحو الغاية من الخطاب، والمقصد الحجاجي الذي يبنيه المرسل (المخاطب). ويمكن التمثيل لهذه الروابط ب: بل، لكن، لاسيما، إذن....وللعوامل الحجاجية ب:ربّما، تقريبا، كاد، قليلا....

 

3-3- الأفعال الذهنية:يقصد بها مجموع المسلّمات والأفكار والمعتقدات المشتركة بين أفراد مجموعة لغوية معيّنة، وهي بمثابة الأسس التي يقوم عليها البرهان في الرياضيات(البديهيات، التعريفات، المسلّمات)، وغايتها لا تخرج عن غاية الحجاج وهي الإقناع والتأثير. وميزتها أنها قابلة للدّحض، ما يجعلها ممكنة وليست ضرورية كما هو الحال في الاستدلال الرياضي أو المنطقي. ولمّا كان كلّ نصّ فلسفي هو نصّ تواصلي وحجاجي، كان لزاما لبلوغ غاياته أن يعتمد على وسائل لغوية وأفعال ذهنية لتطويع عملية الفهم لدى المتلقّي، وهي كلّها مؤشرات على بنية النص الحجاجية.

ومن بين الأفعال الذهنية الحاضرة في النصوص الفلسفية التعليمية خاصة، منها ما يشير إلى التصحيح، ومنها ما يفيد الدّحض والتفنيد، ومنها أيضا ما يفيد التوكيد (الإثبات)، وما يفيد التفسير والتوضيح.


3-4- مقدمات الحجاج: يقوم الحجاج الفلسفي على مقدمات تشكل نقطة الانطلاق لفعل الحجاج وهي مقدمات لا تتمتع بصفة اليقين كما هو الشأن بالنسبة لمبادئ الرياضيات أو المنطق إنما تتصف بصفة القابلية للتبني بنفس احتمالية الرفض، وهي تعدّ قضايا مشهورة عامة مسلّم بها يكون حولها إجماع لا يحتاج إلى تأسيس جديد،  كالوقائع والقيم في تعدّد مستوياتها. كما يعود الكاتب أو المتكلم إلى الأقوال المأثورة التي تستمدّ مفعولاتها من الثقافة العامة للمتلقي وما تحمله من شحنات رمزية وإيحائية.(ما يسمّى بالمواضع المشتركة)[13]. 

تجدر الإشارة هنا إلى أن الكشف عن هذه البنية الحجاجية داخل النص الفلسفي، لا يمكن أن يترسّخ عمليا إلاّ من خلال الاشتغال ديداكتيكيا على نماذج تطبيقية، يتمكّن من خلالها التلميذ تنمية كفاءته الحجاجية، وامتلاك آليات القراءة والكتابة الفلسفية.

 

خاتمة:

 ما يمكن استخلاصه في الأخير هو أنّ الانفتاح على المبحث الحجاجي خطوة أساسية باتجاه تصحيح مسار الدرس الفلسفي وتحديثه، لأن استخراج البنية الحجاجية، والاشتغال بها كأداة ووسيلة داخل الكتابات الإنشائية الفلسفية، يعدّ كفاءة منهجية تقتضي التدريب والتمرين، ولا يمكن الحديث عن أي تفلسف بدون تملّكها. وإذا سلّمنا بأنّ التفلسف حركة فكرية نقدية، وكان النّقد ليس سوى مجموعة الحجج المكوّنة من أجل تسويغ المرور إلى طرح آخر والقبول به، ودفع القارئ إلى المشاركة في هذا القبول والإقرار به (الإقناع)، أو حشد للآراء الموافقة قصد اعتماد هذا الطّرح وترسيمه نظرية أو مفهوما أو مقولة، فإنّ ذلك يشكّل لاشكّ انتصارا وترسيخا لقيم الحوار والتسامح والاختلاف والانفتاح على الآخر.

وبناء على ذلك يمكن القول أن الاشتغال ديداكتيكيا على البنية الحجاجية للنص الفلسفي، تمثّل دعامة أساسية لتنمية الكفاءة الحجاجية عند المتعلّم، حيث تمكّنه من تملّك الآليات البلاغية والمنطقية لممارسة الاستدلال في اللغة الطبيعية، ما يجعله قادرا على الإقناع والتأثير في المتلقّي، ذلك أن الحجاج الفلسفي نسق من العبارات الفلسفية، وتحليل بنيته يتطلّب رصد العبارات الفلسفية وتمييزها عن بعضها بوضوح ودقّة، و تحديد وظيفة كلّ عبارة (عبارة حاملة للأطروحة وأخرى للحجج) مع ضبط العلاقات بين هذه العبارات. نحن إذن أمام حتمية مواكبة التطورات الحاصلة في مجال الحقل البلاغي والحجاجي، لإمكان تطوير وتحديث الدرس الفلسفي.

 


   


[1] - أندريه لالاند، الموسوعة الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت،باريس، الطبعة الثانية 2001.ص. 74

[2] -Encyclopédie De La Philosophie, La pochothèque .2002.p.82   

[3] - M . Mayer, logique, Langage et Argumentation, Hachette Université,2em Ed, Paris,1982 .p.136

(* ) – تذهب نظرية البلاغة الجديدة أو نظرية الحجاج(بيرلمان وتتيكا) إلى القول بضرورة استكمال نظرية البرهان في المنطق الصوري بنظرية الحجاج التي تتولّى دراسة الاستدلالات الجدلية التي تسعى إلى قبول أو رفض الأطروحة المتنازع حولها، فإذا كان البرهان ينطلق من الحقيقة الواضحة، فإن الحجاج ينطلق من الرأي المحتمل الذي يستمدّ قوّته من قبول الناس له. وعلى هذا النحو فإن الحجاج ضروري بالنسبة إلى المجالات العملية كالأخلاق والسياسة، حيث لا يمكن تجنّب الاختيار والتناظر حول الرّأي الأفضل والأقوى (ينظر فليب بروطون، الحجاج في التواصل، ترجمة محمد مشبال، عبد الواحد التهامي العلمي، المركز القومي للترجمة، ط1، 2013.ص.10)

[4] - عزالدين الخطابي، حجاج الفلسفة وبلاغتها، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2017.

[5]  - حميد اعبيدة، الحجاج في الفلسفة وفي تدريسها، مجلة فكر ونقد، االعدد 39، 2001. 77-85

[6] - صابر الحباشة، التداولية والحجاج، مداخل ونصوص، دار صفحات للدراسات والنشر، دمشق، سوريا ، 2008.ص. 49   

[7] - فيليب بروطون، الحجاج في التواصل، ترجمة محمّد مشبال، عبد الواحد التهامي العلمي، المركز القومي للترجمة، مصر، الطبعة الأولى 2013. ص.63

[8] - رشيد أعرضي، البلاغة والحجاج عند بيرلمان، 2014 http://balagharachid.blogspot.com

[9] - عزالدين الخطابي، حجاج الفلسفة وبلاغتها، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2017.ص. 09

[10] - طه عبد الرحمن، اللّسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب،1998.ص.137

[11] - حافظ اسماعيلي علوي، الحجاج مفهومه ومجالاته، الجزء الثالث، الحجاج وحوار التخصّصات، إربد، الأردن، الطبعة الأولى 2010.ص. 87-88

[12] - عادل أومرجيج، الوظيفة الديداكتيكية للحجاج في الدرس الفلسفي. https://milafattadla24.com/news1685.html

[13] - رشيد أعرضي، البلاغة والحجاج عند بيرلمان، 2014 http://balagharachid.blogspot.com

   

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة