10 Aug
10Aug


قضايا التدريس والكتابة الفلسفية في الجامعة الجزائرية


الأستاذ موسى عبد الله، جامعة سعيدة

مخبر "تطوير" للبحوث في العلوم الاجتماعية والانسانية


       إذا تأملنا الآن في تاريخ تدريس الفلسفة بالجامعة الجزائرية، وأردنا التساؤل عن حصيلة ومكتسباته، فما الذي يمكن استخلاصه؟ هل أفرز تاريخ تدريس الفلسفة جملة من الباحثين؟ أم تكوين مدرسين للفلسفة؟ هل ساهم في بلورة ثقافة تنويرية لدى الطالب والقارئ الجزائري؟ هل أنتج لنا كتابة فلسفية ترقى إلى مستوى الإبداعية ..؟ أم أن الدرس الفلسفي الجامعي سعى ولا يزال إلى كل ذلك؟

فيما يخص قضايا التدريس:

       لم ينفصل تعليم الفلسفة في الجامعة الجزائرية منذ تأسيسه إلى يومنا هذا عن وظيفته المرتبطة بتكوين أساتذة للفلسفة في الثانويات الجزائرية، رغم أن الجامعة كانت مستقلة عن المدرسة العليا للأساتذة، ورغم أن أغلب مدرسي الفلسفة اشتغلوا خلال عقدي الستينيات حتى سنة 1968 ( باللغة الفرنسية ) ونهاية السبعينيات بتدريس الفلسفة ( باللغة العربية ) في المدارس الثانوية، لكن هذا التعليم أيضا كان يساهم في تكوين بعض الباحثين الذين كانوا ينخرطون في التدريس الجامعي والبحث العلمي. إلا أن عمليات تكييف البرامج مع متطلبات المهمة التدريسية في الثانوية الجزائرية مارست بدورها عمليات اختزالية أفقرت الروح البحثية المفتوحة والتي يفترض أن تكون سمة ملازمة للتدريس الجامعي في مختلف تخصصاته.

     ومع ذلك ، وحتى بداية الثمانينات فتح قسم وهران وقسنطينة..مما يؤكد حضور الفلسفة بالمؤسسات التعليمية اليوم من حيث انتشار عملية تدريسها ، كواقع يفرض نفسه بقوة، وذلك ضداً على كل الخطابات العدمية التي تتحدث عن موت الفلسفة في عصر سيادة التقنية. ([1]) لأننا وببساطة ، طوال هذا التاريخ لم نكن نساهم في إنشاء نصوص قريبة من فضاء الكتابة الفلسفية الأكاديمية، وأن الجيل الذي أشرف ويشرف على تدريس الفلسفة خلال الربع الأخير من القرن الماضي في الجامعة الجزائرية هو من عمل على المساهمة في تعميم الوعي بأهمية الدرس الفلسفي في فكرنا المعاصر، ولعل الأهمية الكبرى لما أنجزه تتمثل في كونه أتاح لنا معرفة المسافة العظيمة التي ما تزال تفصلنا عن مرحلة الانخراط المنتج والمبدع في تاريخ الفلسفة. إذ استطاع أن يعمل على مراكمة الدرس الفلسفي في الجامعة الجزائرية وهذا مهم بالنسبة لنا ، كما مكننا من ترتيب هذا الإنتاج في محاور أو إشكالات أو أسئلة وقضايا محددة، كما سهل لنا عمليات الفهم، بهدف حصر المكاسب وتعيين حدودها وآفاقها. ونقصد تحديدا النصوص التي أنجزها كل من المرحوم عبد المجيد مزيان  وعبد الله شريط  وعبد الرزاق قسوم والبخاري حمانة والربيع ميمون،المرحوم النبهاني قريبع ، اليعقوبي ..لقد أتاحت لنا أكثر من غيرها فرصة معاينة الإرهاصات التي هي في النظر أقرب إلى روح الفكر الفلسفي، باعتبارها استخدمت مفاهيم ومناهج وأساليب الاستدلال ذات الصبغة الفلسفية، و سند موصول بمعطيات دروس تاريخ الفلسفة، مما يؤكد دائما على أن الإنتاج الفلسفي الجزائري ارتبط ولا يزال بالجامعة الجزائرية، كما ارتبط بأسئلة أقرب ما تكون إلى أسئلة التاريخ والسياسية والتراث والراهن ..مثل نصوص الدكتور عبد الله شريط المنشورة سواء في الصحافة والمكتبات العامة ..لكن دون محاولتنا لتصنيف هذه النصوص كما فعل من قبل الدكتور "عبد الرزاق قسوم" حين عمد إلى تصنيف هذه الكتابات إلى تيارات إيديولوجية مختلفة.. 

 

 في اعتقادنا التصنيف الإيديولوجي هو حجر مسبق على الفكر وحريته..والواقع كفيل بالحكم على حيوية أو لا حيوية فكر ما. وطبعا دون التغاضي عن مساهمة الكثير من المفكرين والأساتذة العرب والأجانب ومدى مساهمتهم في التكوين الجامعي وكذا التأطير والإشراف..

 


      في قضايا الكتابة:

 


 لقد أنجزت خلال السنوات الأخيرة أكثر من محاولة في الإحاطة بالإنتاج الفكري ذي الطبيعة الفلسفية، وقد بدا لي في أغلب هذه المحاولات أن الفكر الفلسفي في الجزائر لا يخرج إلا نادرا عن إشكاليتين مركزيتين، إشكالية التفكير في الحداثة ثم إشكالية التفكير في التراث، وداخل فضاء هاتين الإشكاليتين تبلورت مجموعة من الكتابات والنصوص والمفاهيم، بل وحتى الانشغال بالبحث الإبستمولوجي وببعض القضايا الفلسفية المعاصرة يرتبط بشكل من الأشكال بالإشكاليتين المذكورتين، حيث تتغذى المباحث الابستمولوجية في بعض جوانبها بالهواجس المنهجية المرتبطة بالظاهرة التراثية أو ببعض مفاهيم الفلسفة المعاصرة . *...

      وإذن هذه الكتابات تمارس دورا مزدوجا، فهي تكشف من جهة عن درجات استيعاب الفكر الجزائري لأسئلة ومفاهيم ومناهج تاريخ الفلسفة، وتقدم من جهة ثانية بعضا من جوانب قدرة الفكر الجزائري على بناء أسئلته المرتبطة بإشكالات حاضره وماضيه ولغته وأسئلته. ومن الملاحظات التي ينبغي الإشارة إليها في هذا السياق هو أن قطاعات معرفية أخرى تعمل بدورها على توطين كثير من مفاهيم النظر الفلسفي بالصورة التي توسع من دائرة النظر الفلسفي، وتمنح إشكالات الفلسفة ومفاهيمها فضاءات جديدة للنظر ..كالكتابات التي تشتغل على التاريخ الثقافي مثلا.

       أما اللحظة الثانية في الانتهاج الفكري ، فإنها تتعلق بانطلاق عدة مشاريع في الكتابة والبحث ولو بمبادرات فردية أغلب الأحيان ، إلا أنها تعكس إلى حد ما درجة انخراط الجيل الثاني من الباحثين في مواصلة تأسيس وإعادة تأسيس فكر فلسفي قادر على الاستفادة من دروس وأسئلة الفلسفة المعاصرة. (والإشارة هنا إلى كتابات الكثير من زملاء الجيل الثاني ..  الذين ما فتئوا يسهرون على تدريس الفلسفة في الجامعة مع تدعيم هذا التدريس بالمؤلفات والأبحاث التي ينشرونها هنا وهناك  والتي نفترض فيها  أن تكون كتابات تسهم في إخصاب كثير من حقول الفكر والفلسفة والثقافة الجزائرية.

     إن هذه الكتابات المتعددة والمتنوعة نسبيا..تكشف في كثير من مواضيعها المطروقة ، بين درس الفلسفة كما يمارسه الأساتذة بالجامعة الجزائرية وبين ما يؤلفونه ويشتغلون بالبحث فيه; مما يجعل الدرس يشكل مشروع بحث وتأليف، كما يصبح المؤلف والبحث مرجعا للدرس ... الشيء الذي يدفعنا إلى التساؤل حول طبيعة "الإنتاج" الفلسفي الجزائري من جديد، هل هو تفكير فلسفي في قضايا فلسفية، مثل قضايا الوجود والحياة والإنسان والحرية والمصير والقيمة...؟ أم هو تفكير حول الفلسفة وحسب، يحلل خطابها ويشرحه ويعلق عليه ويترجمه..؟

        تساؤلنا نابع عن اعتبار مفاده ، ان الجامعة لم تصبح مجرد مؤسسة فضاء للتعليم والتلقين أو مجرد دراسة سكونية للواقع بتركيزها على إشكاليات مفارقة لحاجات ورغبات وطموح الإنسان / الفاعل . وكأنها نوع من التهجين لكل ما هو جديد....إنها أداة منظمة ، موجهة وهادفة منخرطة ضمن سياسة معقلنة لتوزيع المعارف وأنماط التكوين .. ([2]) أي تنسجم مع شروط ومقومات المشروع المجتمعي القائم . نؤكد على  ذلك بالرغم من انتشار أقسام الفلسفة عبر مختلف الجامعات في ظل الإصلاحات الجامعية الأخيرة .. إذ أصبح  أملنا أوسع فيما تم وانجز، أمل في أننا أدركنا أخيرا جملة المهام الموكلة للفكر الفلسفي في التاريخ ...

 

لكن هذا لا يوهمنا البته من أن علاقة الجامعة( المؤسسة ) بالفلسفة تحديدا لا تزال على حالها علاقة غامضة إن لم تكن منعدمة. إنها مُدمجة ـ أي الفلسفة ـ كنوع من المعرفة العامة ـ في إطار نوع من التعايش السلمي المبهم ـ لكنه تعايش قاتل للرغبة في مسائل الجدل الفلسفي ناهيك عن الكتابة الفلسفية التي لا تخرج في معظمها عن إعادة كتابة الرسائل والأطروحات ..وان اختلفت فإنها لا تتجاوز إلا قليلا أو استثناء الطابع الميتا - تاريخي والميتا - اجتماعي.. اذ يكفي القيام بعملية إحصائية لجملة الكتابات والمواضيع المتناولة ، على تنوعها وانحصارها عموما في جملة البحوث والتأليف في مجال فروع تكوينها لا تتجاوز المؤسسة الجامعية..

 

نقول بذلك على اعتبار الكتابات الفلسفية الحالية على فإنها لم ترق بما فيه الكفاية إلى مستوى الإبداع الفلسفي المنتج للمفاهيم الجديدة..مفاهيم قابلة إلى التبيئة على الأقل ، الشيء الذي يمكن جمعه بشكل كمي - تراكمي ، ، في مقابل استثناءات بدأت تجد طريقها إلى الظهور ، للحصر اذكر كتابات كل من الزواوي بغورة ، جمال مفرج ، الزاوي حسين ، احمد دلباني ، عمارة ناصر..واعتقد جازما إن الإشارة إلى هذه الاستثناءات ضمن هذه الورقة عمل غير كافي ..نظرا للسئلة الملحة التي تحاصرنا ولم نباشر التفكير جديا في طرقها ..فأين اسئلة الراهن والمستقبل كالحرية كالعقل كالحياة كالبيئة كالمصير...ضمن كتاباتنا..

          إن تعزيز المشروع الديمقراطي في حياتنا السياسية على سبيل المثال يتطلب الاستفادة من مكاسب ومنجزات تاريخ الفلسفة وتاريخ الفلسفة السياسية، كما أن إنعاش الحوار العقلاني والتاريخي في فضاءات الفكر والعمل في مجتمعنا يستدعي بدوره ترسيخ آليات وقواعد النظر الفلسفي وآليات وقواعد الفكر المنهجي كما بلورته وما فتئت تبلوره وتطوره مكاسب الدرس الفلسفي المعاصر، وكل نسيان أو إغفال لوظيفة الفكر الفلسفي في التاريخ سيساهم في تكريس الدوغمائيات والأفكار المطلقة والقطعية ..

 

     ونظرا لأننا نعاني في فكرنا المعاصر من أعباء التاريخ وأعباء العقائد كما استقرت وتحجرت في ثقافتنا وتقاليدنا وحياتنا العامة على وجه العموم، فإن الاستعانة بالفكر الفلسفي بمناهجه وبآلياته في النظر والتعقل والتحليل تتيح لنا بناء الوسائل والآليات النظرية المساعدة على تحطيم وتكسير قيود الموروث الكابحة لحرية الفكر والإبداع.

 


       إن المؤسسة عموما، والمؤسسة الجامعية خصوصا في ثقافتها وآليات تحركها.. مصابة بالكثير من مظاهر التفكك والتضارب واللاتكامل  اتجاه علاقتها بالفلسفة ..بالرغم من أن الجامعة لم تسلب من الفلسفة كل فاعليتها ونزعاتها التحررية وقدرتها على البحث .. عن العديد من هوامش الاستقلال والتحرر من كل هيمنة مطلقة للمؤسسة الاجتماعية ، مما يؤهلها لتحرير ذاتها والمؤسسة في آن . فدون محاولة رصد أو تقييم لقسم الفلسفة بجامعة وهران مثلا هناك ما يربو على الأربعين عنوانا في مختلف المباحث الفلسفية والثقافية ، الفردية والجماعية . وهذا يرمز إلى أنه كلما كان مجال تحرك الفلسفة متسعا كلما كانت مهامها أقرب إلى الإنجاز. فالفلسفة كما يقول دريدا،« تتجاوز مؤسساتها، ويجب عليها أن تظل حرة في كل لحظة، وألا تطيع سوى الحقيقة وقوة السؤال أو الفكر، ومن حقها أن تقطع الصلة مع كل رباط مؤسساتي».   فما هو خارج المؤسسة يجب أن يتوفر على مؤسساته دون الانتماء إليها. فكيف نوفق بين احترام العتبة المؤسساتية وعدم احترامها؟» ([3]).

 

      وإذن كيف يمكن تأسيس دعوة إلى تحرير الفلسفة من ضغوط المؤسسة المباشرة بشكل مستمر وغير ظرفي ؟ لقد تمكن الدرس الفلسفي الجامعي من ابتكار الوسائل التي سمحت له بتركيب جملة من المنجزات النظرية التي أصبحت تشكل قاعدة انطلاق قوية في الثقافة وفي الفكر و ما يمكن أن ينتظم في فكرنا اليوم هو هذا الفكر الفلسفي الفاعل والفعال القادر على بناء وإعادة بناء المشروع الحداثي في فكرنا وواقعنا ... ذلك أن كل أسئلة حاضرنا ترتبط بسؤال الحداثة والتحديث، سؤال الفعل التاريخي والاجتماعي والثقافي المتمركز حول قضايا الإنسان الكبرى في الوجود والمجتمع والبيئة ، والعيش سويا وفي وفرة و خلق فضاء عمومي ([4])..لأن هذا الفضاء يرتبط أيضا بالفلسفة والفكر الفلسفي. فهل هذا يُثننينا وللأسف عن ترسيخ  تقاليد فكرية  ترصد محاولاتنا هذه .؟ عطفا على زملاء لنا بالجوار.

 

     وإذن، فإن الحديث عن التدريس وعن الكتابة وعن دور الجامعة ووظيفتها الأكاديمية ومسؤوليتها الاجتماعية، يجب أن يكون فلسفياً في المقام الأول، ما دام الأمر يتعلق بماهية وبمصير الجامعة والمجتمع معاً.

 

 

المراجع المعتمدة

 

  1. مصطفى محسن . مقال : " الفلسفة والمؤسسة التربوية ـ أسئلة التحول في المجتمع الجزائري المعاصر ـ نحو رؤية سوسيولوجية نقدية  " الجزء الأول ـ مجلة فكر ونقد . العدد 12 .1998. دار النشر الجزائرية ـ الدار البيضاء .
  2. Jacques Derrida، Les antinomies de la discipline philosophique، in Du droit à la philosophie، Galilée، Paris، 1990
  3. أحمد الخالدي.  "تأملات في تجربة تعليم الفلسفة بالجزائر، هشاشة المؤسسة وسؤال المستقبل"، مجلةفلسفة، عدد 8/7، ربيع 1999.
  4. بن شرقي بن مزيان ، الفلسفة والفضاء العمومي ( التحديد والوضوح ط 1 2007.دار الغرب للنشر والتوزيع. الجزائر.

Collectif، Philosophie de l’université، Payot، 1979.

 





 

 

أحمد الخالدي.  "تأملات في تجربة تعليم الفلسفة بالجزائر، هشاشة المؤسسة وسؤال المستقبل"، مجلة فلسفة، عدد 8/7، ربيع 1999. ص 43

* - انظر مساهمة زميلنا الدكتور الزواوي بغورة " الخطاب الفلسفي في الجزائر ، الممارسات والاشكاليات ( تشخيص نقدي).

[2] ـ مصطفى محسن . مقال : " الفلسفة والمؤسسة التربوية ـ أسئلة التحول في المجتمع الجزائري المغربي ـ نحو رؤية سوسيولوجية نقدية  " الجزء الأول ـ مجلة فكر ونقد . العدد 12 .1998. دار النشر المغربية ـ الدار البيضاء . ص 118.

[3]  ـ Jacques Derrida، Les antinomies de la discipline philosophique، in Du droit à la philosophie، Galilée، Paris، 1990، pp: 518 – 519.

[4] ـ بن شرقي بن مزيان ، الفلسفة والفضاء العمومي ( التحديد والوضوح ط 1 2007.دار الغرب للنشر والتوزيع .ص 68 وما بعدها .

   


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة