29 Jul
29Jul


في زمن الجائحة : العقل العلمي تحت رحمة الدجل و الشوفينية الدينية


د.سباعي لخضر، جامعة مستغانم

مخبر الفلسفة وتاريخ الزمن الحاضر، جامعة وهران2 

 

 

 

في الأزمان و اللحظات العصيبة،كلحظات الأوبئة، ينتعش الفكرُ الميثي والسحري،المتكئ بعضه على تأويلات فاسدة للنصوص المقدسة والمتون الدينية،و بعضه الآخر على عادات سحرية قديمة ورثتها العقلية البدائية، في هذه اللحظات يُزاحم الفكرُ العلمي في تخصصاته المختلفة، و يُنازع في تقديم التفسيرات و الحلول للأزمات والجوائح، بل و يتمكن الفكر الميثي السحري من استقطاب واسع للعامة، و حتى لكثير من المثقفين و ذوي التكوين الهش، ذلك التكوين الذي ينفقع في مثل هذه اللحظات، فيتماهي تفكير أولئك  في رؤية الظواهر و مقاربتها بفكر السذج،حيث تتعطل فكرة"الحدوث الحتمى" للظواهر، لصالح الحدوث الحر غير القابل للتفسير، إلاّ وفق مقولات اعتباطية جاهزة غير قابلة للاختبار و التحقيق التجريبي.

لقد كان ظهور فيروس كورونا في الصين و تحوّله إلى جائحة عابرة للقارات، مناسبة صادمة لاكتشاف مدى الهشاشة التي يتميز بها التفكير لدى كثير من الأفراد  في المجتمعات المعاصرة بشكل عام، ومجتمعاتنا العربية والإسلامية بوجه خاص، حيث تبيّن أن العلاقة بين العلم والإيمان هي في منظور الكثيرين قائمة على الصراع والتضاد، والاستبعاد و العناد و الندية، فراح بعضهم متسرعا إلى إعلان موت العلم، ومهاجمة كل من يعوّل عليه في تجاوز هذا التحدي الذي يواجه البشرية في الزمن الراهن، إن مثل هذا الموقف المنفعل والمتسرع تترجمه عبارات مثل"لقد استنفذت حلول الأرض، ولم يبق سوى حلول السماء"، تماما و كأن السماء ستمطر لقاحات وبروتوكولات علاج،بهذه المناسبة، تبين أيضا أن الفكر الخرافي و السحري المنتسب إلى الدين ،لا يزال يشكل خطرا كبير على الإنسان، في صحته و استمرار حياته، لا نتحدث هنا عن اللجوء الصحي العاقل إلى الدين بوصفه عزاء، و حاجة سيكولوجية، تعيد للإنسان الطمأنينة والأمل، هذا اللجوء المعبر عنه في سلوكات تعبدية كالصلاة والدعاء يمارسها المؤمنون في ديانات مختلفة، و إنما ما نقصده في هذا المقام هو الانكفاء عن العقل و العلم، و الاستسلام  لتفسيرات مجانية تعتبر الوباء ظاهرة فوق طبيعية، فتضع حاجزا سيكولوجيا و عقديا أمام كل محاولة لتعقب أسبابها، و تفكيك بنيتها الداخلية، ثم التحكم فيها و القضاء عليها.

ما يلفت الانتباه في ما ينشر من آراء و تصورات في المواقع الإلكترونية وعلى جدران وسائط التواصل الاجتماعي،حول فيروس كورونا المستجد، هو ذلك  التقابل بين تفسير لاهوتي، يعتبر الفيروس جندا من جنود الله، وتفسير وضعي يعتبر الفيروس ظاهرة بيولوجية محضة، لها أسبابها الوضعية، التي يرتفع بارتفاعها، التفسير الأول ترفده تصورات دينية عقدية، تنكر الفاعلية للأسباب، و تعتبر أن الإرادة الإلهية هي وحدها من تصنع الظواهر،كما ينهل هذا التفسير من العقل السحري الخرافي و ما تراكم فيه من أفكار ساذجة، و قد وجد هذا التفسير تقبّلا لدى فئات عريضة من المجتمع، لا سيما و أن الفيروس انتشر في الصين عقب عمليات القتل والتنكيل التي تعرض طالت المسلمين الإيغور في الصين، فسارع الكثيرون إلى اعتبار الفيروس جنديا من جنود الله، أرسله للصينيين انتقاما لعباده من الإيغور، كما ركن الكثيرون إلى هذا التفسير، استنادا إلى ما بثته الكثير من المواقع والشاشات، عن العادات الغذائية المقززة للصينيين، وهي عادات تتعارض مع ما سنّه الإسلام فيما يتعلق بالأغذية المباحة والمحرمة، و من اللحوم على وجه التحديد،في هذا السياق برزت كثير من الأصوات تتشفى في الصينيين وهم تحت رحمة الفيروس، معتبرين ذلك عقابا إلهيا على عاداتهم الغذائية غير الشرعية. جوبه هذا التفسير اللاهوتي بالرفض والسخرية من طرف البعض،و هو ما تنقله العبارة الساخرة التي تداولتها بعض الصفحات،"إذا كان الفيروس جندا من جنود الله، فلماذا التصدي له بالتعقيم"؟؟؟. ثم جاء الدحض سريعا لفرضية الانتقام الإلهي، حينما انتشر الوباء خارج الصين، بما في ذلك المناطق التي يؤمها الحجيج من ديانات مختلفة، كمكة المكرمة، والفاتيكان، والقدس المحتلة،والهند ، و المزارات الدينية الشيعية في العراق وإيران، أين اقتحم الفيروس أجساد المؤمنين الأتقياء ، الذين من المفترض ـ حسب التفسير اللاهوتي ـ أن يعصمهم إيمانهم و تقواهم من المرض؟؟، فما الذي جعل الفيروس يوّسع زحفه من مناطق الضلال إلى مناطق الإيمان؟، ألم يقولوا :"أن البلاء لا يحل إلا بذنب، ولا يرفع إلى بتوبة ".

في هذه اللحظة الحرجة التي يواجهها العلم، و الطب تحديدا، ينتعش الطب البديل الجائح(بالمعنى العامي للجياحة)،حيث صار كل من هب و دب  ينتدب نفسه لتقديم العلاجات السحرية، فيصدقه الناس، و يقبلون عليه، و مما يؤسف له أن الكثير من وسائل الإعلام والوسائط التواصلية، تساهم في نشر هذا الدجل، والاحتفاء به باستقبال صناعه في البلاطوهات، و لعلنا هنا نذكر ما صُدِم به العقل العلمي و الطبي، و حتى العقل البسيط ، حينما  أقبلت قناة إعلامية جزائرية تشيع عن نفسها أنها ذات مرجعية دينية،بالترويج لهذا للفكر غير العلمي في ظرف حساس تمرّ به الإنسانية، و ذلك باستقبالها أحد وجوه الطب الجائح البائس،ليعرض على المشاهدين علاجا سخيفا، يتمثل في مادة تبغ"الشمة"،حيث أن صاحبة هذا "الدجل" قالت أن الشمة يمكن استعمالها ككاشف للفيروس وعلاج له، فبهذه الحلقة الجديدة من الاستخفاف بالجهود التي يبذلها العلماء في المخابر والمشافي، تؤكد هذه القناة استمرارها في خط نشر المواد الدجلية المستفزة للعقل العلمي، إن هذا الأمر على خطورته لم يتم التصدي له بتدخل صارم من سلطة ضبط السمعي البصري، إن مثل هذا الصنيع لا يقل جرما عن الجرائم المباشرة التي تقع ضحيتها الأطقم الطبية في نقاط التماس مع الفيروس، لهذا من الضروري أن تنتبه السلطات إلى هذا الجرم، والتصدي له ، ليس فقط بسن تشريعات عقابية، بل بتبني استراتيجية صريحة في ترسيخ الثقافة و الخطاب العلميين و توطينهما عبر مختلف الوسائط التي تتخذها الدول لتكوين الناشئة و توعية الجمهور. ففي زمن التقدم العلمي و التقني في مجال الطب، لا يمكن اعتبار الانتشار الواسع لقنوات و منابر الدجل و الشعوذة و العلاج بالتمائم، و بمواد مقززة ، مثل بول البعير، إلا ردة على مكاسب العقلانية الظافرة، رغم تعثراتها من حين إلى آخر.

قصة علاج الشمة السخيف الذي اقترحته امرأة لم تتجرأ حتى عن الكشف عن وجهها، يستدعي إلى ذاكرة الجزائريين قصة صاحب التيس الحلوب، الذي ادعى أنه حاز على معجزة من السماء، في شكل تيس يدر حليبا شافيا لكل الأمراض،و فجأة سار الناس إليه يتهافتون،من كل حدب وصوب، وصار محله مزارا لطلاب الشفاء،مصدقين أولا: أن التيس الذكر يدرّ الحليب، وثانيا: أنه يشفيهم من الأمراض التي يشتكون منها.من جنس هذا التفكير أيضا نذكر متاجر بعض الرقاة التي  تحولت إلى مصحات بديلة للمستشفيات، يبتز أصحابها زبائنهم ( من العامة و من الخاصة أيضا) وراء جدران من التكتم و السرية.إننا  هنا أمام عاهة قاتلة في التفكير ومقاربة الظواهر،ربطها المرحوم الجابري ب"الذهنية" قبل العلمية التي تكونت لدى الإنسان العربي داخل سياق جغرافي وثقافي مخصوص،فجعلته يقبل و يروّج للحدوث الصدفوي و المفاجئ للظواهر، و التحكم فيها عن طريق الطلاسم و التعاويذ،و قد ساعد التقديس و غياب الجرأة على المساءلة و النقد في توريث هذه الذهنية. 

في خضم البحث عن علاج فيروس كرونا المستجد، طالعتنا بعض المواقع و وسائل الإعلام، بعلاجات سخيفة كثيرة اقترحها بعض المنتسبين إلى الدين،فداخل هذا الخط من الدجل نقل أن رجل الدين الإيراني عباس تبريزيان نصح بدهن فتحة الشرج بزيت البنفسج......، من أجل القضاء على فيرس كورونا"؟؟؟؟، كما نقل عن رجل دين إيراني آخر"أن وضع قطرة واحدة أو أكثر من زيت الحنظل ، في الأذنين سيمنع من التقاط عدوى الفيروس؟؟؟؟؟. و في لبنان نشرت إحدى  الصحف خبرا عن امرأة تدعي أن أحد قديسي المسيحية المتوفين ظهر لها في منامها،و طلب منها أن تأخذ ترابا  من أحد الأديرة في لبنان، دير تغلّيه و تصفّيه ، ثم تنقله لمستشفى رفيق الحريري لمعالجة المصابين بفيروس كورونا،في ذات البلد قام كاهن مسيحي باستئجار طائرة خاصة، حلّق بها في الأجواء اللبنانية، لحماية اللبنانيين من الفيروس. 

في كثير من البلدان الإسلامية ادعى بعض الرقاة أن كورونا تعالج بالرقية الشرعية، و قال أحدهم أن ""حبة البركة التي تحدث عنها النبي هي دواء للكورونا وأن كل ما في الأمر أن علينا أن نحسن تصنيعها و استثمار هذه المادة الدوائية بأسلوب علمي تقني متطور"، في سياق هذه التفسيرات المسكونة بالهاجس الديني ظهر بعضهم يدعي أن كورونا لا تصيب المسلم الذي يداوم على الوضوء،حيث الاستنشاق والاستنثار يُخرج الفيروسات المحتمل تسربها عبر الأنف، و أن النقاب والوضوء هما علاج فعال لفيروس كورونا. في هذا المقام ينبغي على الدولة أن تنتبه إلى العقاقير و "الأدوية" التي تنتجها كثير من "مقاولات الطب البديل"، و تخضها للرقابة، كما ينبغي أيضا الانتباه إلى القنوات الفضائية التي تروج لهذا المنتوجات ، و القنوات أيضا تلك التي تمتهن التنجيم و الشعوذة على الفضاء، دون حسيب أو رقيب.

إن مثل هذا الدجل ما كان يحظى بالتصديق لولا غياب العقل النقدي المحاصر من طرف بنى الفكر الغيبي التقليدي،هذا الفكر  الذي يجري استثماره سياسيا و عقديا للحفاظ على مصالح رمزية و مادية، و عليه يمكن القول أن التحدي الأكبر ليس إيجاد الحل لهذه الجائحة، فالعقل العلمي الواثق من قناعاته المنهجية يحمل دائما في داخله إرادة تجاوز سقطاته، و إخفاقاتها، فتاريخه يثبت أنه كثيرا ما تجاوز هذه الإخفاقات، و وجد حلولا لأزمات ظلت مستعصية، و إنما التحدي الأكبر هو مجابهة فيروس السذاجة، و الدجل الذي ينبت على جنبات الكثير من العقول، فيصبح أكثر تهديدا من الفيروسات البيولوجية الحقيقية.

يجدر بالذكر هنا أن التفسير اللاهوتي،والسحري للمرض ليس خصيصة في المجتمعات العربية والإسلامية، و إنما له حضور في كافة المجتمعات، فالعقل المنكفئ على السحر والخرافة و الدجل ، و بعض التأويلات الفاسدة للنصوص الدينية، يفكر بنفس الآليات والمقولات، حيث لا اختلاف بين اليهودي والمسلم والمسيحي، والهندوسي، والبوذي، في ربط الوباء بغضب الرب، الأمر الذي يجعل أصحاب هذا التفكير يرون أن العلاج الحاسم  له، هو التوبة والعودة إلى الصراط المستقيم الذي رسمته شرائع كل دين، في هذا السياق راح الكثير من رجال الدين يلتمسون علاجات هذا الوباء في التراث الديني، ففي المجتمع اليهودي تناقلت بعض المواقع أن حاخاما يهوديا اعتبر الوباء علامة على ظهور السيد المسيح،و هو الأمر الذي تبناه وزير الصحة الإسرائيلي،الذي قال"ينبغي الصلاة على أمل أن يأتي المسيح المنتظر قبيل عيد الفصح رمز الخلاص في الشهر القادم لينقذنا من عدوى كورونا"، كما ادعى حاخام آخر أن "بيرة كورونا" التي يوزعها على المؤمنين اليهود ويطلب منهم احتساءها، تشفي من فيروس كورونا، و تشكل مناعة ضده، في الصين نقلت صحيفة التايمز عن صحفيا صينيا، تفسيرا يعتبر الفيروس انتقاما لحيوان"البنجول"استدل عليه بعبارات من الكتب الصينية القديمة تحذر من أكل الحيوانات البرية مثل البنجول و الثعابين والخنزير، من خلال هذا التفسير دعا الصينيين إلى العودة إلى تراثهم الديني القديم ، و الالتزام بمحرماته.

الاعتراض على الحجر الصحي في زمن الكورونا عود على بدء:

إن ما شهدته بعض الدول الإسلامية من اعتراضات على إجراءات الحجر الصحي، لا سيّما تلك المتعلقة بغلق المساجد و أماكن العبادة، و منع أداء الصلاة جماعيا، خوفا من انتقال العدوى، لهو دليل على العناد الذي يتميز بعض المنتسبين للدين تجاه العقل العلمي، و استهتاره بالمخاطر التي تواجه البشر، فراح بعض رجال "الدين" يتهم أصحاب القرار باستعداء الدين،والتضييق على المؤمن في ممارسة شعائره، متناسين أن حفظ النفس و النسل من المقاصد الكبرى التي استهدف الدين تحقيقها، و أن عبادة الله عبادة صحيحة لا تتحقق إلا بإدراك مقاصده من تنزيل الدين، يستند البعض في الاستخفاف بتحذيرات العلماء من انتشار العدوى، بحديث مروي "عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال:لا عدوى و لا صفر،و لا همة"، فقال أعرابي: يا رسول اله فما بال الإبل تكون في الرمل كالظباء، فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها؟، قل: فمن أعدى الأول؟ ، فالواضح هنا أن المراد هو النهي عن الاعتقاد بأن بعض الأمراض تنتقل بسبب العدوى، لأن الأمر بقضاء الله و قدره ،بالرغم من وجود حديث نبوي آخر يناقض الأول، و يقر وجود العدوى،و نصه:" لا يورَد مُمرِض على مُصح"، أي لا يؤتى بمريض على صحيح سليم ، مخافة أن يعديه.

إن هذا الاعتراض على الحجر الصحي لم يُعدم سوابق في الماضي، حيث ينقل محمد أمين البزاز في كتابه تاريخ الأوبئة و المجاعات في المغرب أن"السفير المغربي ابن عثمان في رحلته إلى إسبانيا المسماة"الإكسير"، بعد وصوله إلى سبتة سنة 1779، وصف الكرنتينة Quarantaine(الكلمة منحوتة عن اللغة الفرنسية، و مشتقة من عدد أيام الحجر Quarante jours )،بقوله" و قد ذكروا لنا قبل أنه لا بد من أن نجعل الكرنتينة و معناه ان يقيم الذي يرد عليهم في موضع معروف عندهم معد لذلك أربعين يوما لا يخرج منه، و لا يدخل إليه أحد...و لهم في ذلك تشديد كثير حتى أن الذي يأتي إلى صاحب الكرنتينة بالطعام بطرحه له من بعد و يحمله الآخر و لا يتماسان، و إن ورد عليهم بكتاب  ذكروا أنه يغمسونه في الخل ، بعد أن يقبضوه منه بقصبة"[1]

 

 تحدث المؤرخ الزياني في كتابه "الترجمانة"عن التدابير الصحية التي اصطدم بها في تونس في طريق عودته من رحلته الثالثة سنة 1794، فذكر أن السفينة التي كانت تقله مع عدد من الحجاج و الركاب الأتراك و المسيحيين لم يسمح لهم بحرية الدخول في ميناء تونس إلا بعد قضاء حجر صحي لمد 20يوما، و هنا لم يتردد الزياني في اعتبار هذا الإجراء مخالفا لما تأمر به الشريعة ، فصرح قائلا "و بعد يومين جاءنا الإذن بالنزول إلى الكرنتينة الشنعا الممنوعة عرفا و شرعا" ثم زاد في موضع آخر " وأنزلوننا بقلعة تيكي وسط البحر بقصد بدعة الكرنتينة التي جعلوها دفعا للوباء قبح الله مبتدعها"[2]

 

 أصدر الناصري فتوى تحرم "الكرنتينة"، و قال أن مصالحها، غير محققة،على عكس مفاسدها، بل أنه اعتبر الحجر الصحي لا يهدد مصالح الناس المادية فحسب، و إنما أيضا عقائدهم الدينية" فالحاصل أن الكرنتينة اشتملت على مفاسد كل منها محقق فتعين القول بحرمتها ، و جلب النصوص الشاهدة لذلك من الشريعة لا تعوز البصير"[3]

 

نفس آليات التفكير ما زالت تشتغل لدى العديد من رجال الدين في تعاطيهم مع جائحة كورونا ، و الإجراءات الصحية التي تفرضها الدول مستندة إلى قرار العلماء. فلحد هذه اللحظة من استشراء الفيروس، لازال البعض من الأئمة الذين يمارسون الشوفينية الدينية، و يكيلون إتهامات لقرار استمرار غلق المساجد أمام روادها ، اتهامات صريحة باستعداء الدين، و منهم من دفعه العناد و الشوفينية إلى حد القول أن "الوباء لن يرتفع إلا بفتح المساجد" ، إن مثل هذه الآراء التي تستهدف تجييش العواطف الدينية، تشكل خطرا كبيرا ليس على الصحة و السكينة العمومية فقط، بل تشكل خطرا آليات التفكير السليم التي ينبغي امتلاكها من أجل إدراك حقيقة الظواهر و كنهها، إنها هذه الآراء تقود في منتهاها إلى جعل الدين ندّا للعلم.

 

في الحاجة إلى حماية العقل العلمي ضد الدجل:

 

إزاء هذا التشويش والاحتقار والاستخفاف بالعلم و العلماء، وجب على المجتمع بأجهزته المختلفة تبني استراتيجية ثقافية و تعليمية صريحة لتوطين الفكر العلمي وترسيخه مقولاته الأساسية، مثل السببية و الحتمية ، لدى الناشئة و الجمهور، و ذلك لتمكين الإنسان في هذه المجتمعات من أداء واجب المواطنة، و ما تقتضيه من ضرورات توفير و احترام العيش المشترك الآمن، و التصدي لنزوات الفردنة والإنغلاق التي تساهم في نشرها بعض الخطابات الدجلية العنيدة، إن هذه الخطابات صارت اليوم تمتلك ـ بسبب التساهل الذي تحظى به  من طرف السلطات، أليات فعالة في الاستمالة و غسل العقول.مما يستدعي منا استرجاع زمام المبادرة و الذود عن العقل العلمي و مكتسباته المتراكمة، من أجل انتشال البشرية من حالة الضياع التي تفتح عليها خطابات الدجل.

 

لا  فرق إذن في درجة الجرم، بين فكر دجلي سحري يهاجم و يعترض و يشكك في نوايا و مصداقية و مشروعية القرار العلمي، و بين اعتداءات جسدية مباشرة تطال ممارسي التطبيب في مختلف نقاط التماس مع الفيروس، إن مهمة الانتصار للعلم ، التي انتدب لها ابن رشد نفسه، و عكف بجسارة و اقتدار على تفكيك الرؤية الأشعرية للعالم، بوصفها المتن المسيطر على الوعي الإسلامي منذ المرسوم القادري،و فضح تواطؤاتها الأيديولوجية،  يجب أن تكون هي مهمتنا الأساسية العاجلة في مختلف المواقع ، هي استئناف التفكير مع ابن رشد في عصرنا ،و لعل أهم ما يجب أن ننبه إلىه داخل هذه  المهمة هو المفاعيل الخطيرة للرؤية التي  تعتبر أن الاعتقاد بفاعلية السبب يمثل نقضا لمبدأ لا تناهي القدرة الإلهية.

 

  
 

[1] ـ محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة و المجاعات بالمغرب،منشورات كلية الآداب و العلوم الانسانية ، جامعة محمد الخامس، الرباط، (سلسلة رسائل و أطروحات، رقم ، 18، 1992، ص404.

  

[2] ـ المرجع نفسه، الصفحة نفسها

   

[3] ـ المرجع نفسه، ص405.

   

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة