27 Jul
27Jul


بول ريكور، الذات وفلسفة الفعل


الأستاذ رباني حاج، جامعة معسكر



يقول ريكور(1913 -2005) "إن إشكالية الذات التي أقترحها في الذات وكأنها الآخر تنتشر على مستويات عدة من استعمال فعل « Agir » ففي المستوى الأول، وهو مستوى فينومينولوجية هيرمينوطيقية، يوجه البحث من خلال سلسلة الأسئلة القريبة من اللغة العادية: من هي ذات الخطاب؟ من هي ذات الفعل؟ من هي ذات السرد؟ من هي ذات التهمة الأخلاقية؟ ولا شك في أن تشتت التحري وانتشاره مضمون من قبل الاستقلال النسبي للمجالات الفينومينولوجية المبحوث فيها: ... بيد أن تكرار السؤال بـ من؟ يعوض هذا التشتت بالإلحاح على سؤال شامل يسمح باعتبار إثبات الذات إجابة مضايفة للسؤال من؟"

         ينطلق ريكور من رؤية تأويلية للذات، على اعتبار أنها غير قابلة لإدراك ذاتها بذاتها بصورة مباشرة ودون أية وسائط، فالذات منخرطة في العالم من خلال الأفعال التي تقوم بها، كالقدرة على القول، والفعل والسرد والاتهام، مما يجعلها تتعرف على وجودها بواسطة أفعالها التي ليست بالضرورة متولدة عنها بشكل مباشر، ويسمح هذا المنعرج بزحزحة الذات  من منظورها البسيط القريب من السطحية إلى كونها ذاتا تحيا وتعيش في عالم خاضع لصيرورة معقدة ومركبة وهو ما يقترب من التصور الأرسطي للذات باعتبارها ذاتا فاعلة منخرطة في مسار حياتي متشعب ومتعدد الاتجاهات تلتقي فيه رؤى مختلفة ومتصارعة فيما بينها، لذى يقول ريكور " لا يتوانى أرسطو في القول بأن كل تاريخ محكي بشكل جيد يعلمنا شيئا ما، بأكثر دقة، قال بأن التاريخ يحيل على اتجاهات كونية للشرط البشري وتحت هذا المعطى، فالشعر أكثر فلسفة من تاريخ المؤرخين، وهو أكثر التصاقا بالجوانب الحميمية في الحياة، ومهما كانت العلاقة بين الشعر والتاريخ الوصفي فإن الأكيد هو أن التراجيديا، الأسطورة، الملهاة، حتى نسرد فقط الأجناس التي كان يعرفها أرسطو، تنتمي إلى شكل من الفهم يمكن أن نسميه فهما وصفيا، وهو أقرب إلى الحكمة العملية وإلى الحكم الأخلاقي منه إلى العلم، وبشكل أوسع إلى الاستعمال النظري للعقل".     

هذه الذات المنفتحة على العالم والمنخرطة في مسار الحياة، لا تكتفي بالتصور العقلاني لذاتها، بل ما يميزها هو إنصاتها واستجابتها لما تحياه وتعيشه في العالم، فهي ذات تحيا أولا وقبل كل شيء، لكن المقصود بالحياة هنا ليس طابعها البيولوجي، وإنما مضمونها الإنساني، فالإنسان ليس مجرد معطى جاهز ومكتمل التصور والفهم بشكل مسبق، وإنما هو كائن فاعل، وموضوع فعله الأول هو قدرته على إنتاج فهم حول ذاته، من هنا يقول ريكور "إن الحياة ليست إلا ظاهرة بيولوجية مادامت لم تخضع للتأويل".

والتأويل هو آلية نقدية  وتفكرية تجعلنا نكتشف الثغرة التي تنخر الوجود البشري، من خلال المسافة الموجودة بين التأمل الميتافيزيقي والتصور الحياتي للإنسان كذات فاعلة، أو بين الإرادة والقدرة، وهو ما يجعلنا أمام إشكالية يتم الانتقال فيها "من أنطولوجيا ناجمة على التفضيل الممنوح للوجود بوصفه الحق إلى أنطولوجيا تمنح الأولوية للوجود بوصفه فعلا وقوة، ضمن الاستعمالات المتعددة للموجود من حيث هو موجود.                              

هذا الانتقال من أنطولوجيا الوجود بوصفه الحق إلى أنطولوجيا الوجود بوصفه فعلا وقوة، سمح باكتشاف وضع الإنسان في خضم الفعل على مستوياته المختلفة، وهو وضع محكوم بالاتساق بين أوجه الفعل، مما يؤدي إلى التعرف على بنية الذات غير المنسجمة، إذ هي بنية تتضمن التناهي واللاتناهي في الوقت ذاته، "فالإنسان كذات متكلمة يعيش لا تناسب بين الذات والذات، بين الفعل اللانهائي وكلامه الحالي، قدرته على القول ليست كلية وليست شفافه له في ذاته، فتحكمه في الكلام مهدد ومحدود دائما، مادام هناك تشتت بين إرادة القول والقدرة على القول، لأن هناك تعال للكلام، على إقدامنا للكلام وعلى منظورنا للكلام، نحن نتكلم، ونحن نتموقع بشكل ما، في هنانا notre ici والآن".

إن التشتت بين الإرادة والقدرة يضعنا أمام معضلة أساسية تتمثل في مدى قدرتنا على الفعل، لأنه من منظور ريكور رغم هذا التشتت إلا أن الوحدة، وحدة خطة الحياة ليست أمرا مستحيلا، بل هي أمر ممكن، مما يدل أن الوجود الإنساني ليس مفرغا ولا ممنوعا من أية غاية أو جدوى، ولكن هذه الغاية هي غاية منبثقة من الفعل المتأصل في الرغبة وليست غاية مستقلة بذاتها متعالية على الطريقة الكانطية، فقط بهذا الشكل تكون غاية إنسانية، ومن ثم تكون قابلة للتحقق، لهذا يقول ريكور "كائن لا يقدر على الكلام ولا الفعل لا يمكنه أن يسترجع ماضيه، ولا بإمكانه إعادة بناء وحدة حياته بشكل متماسك ليهدف إلى تحقيق اكتماله الأخلاقي، لأن كل هذه النشاطات تفترض بشكل ما استعمال الكلمات وأخذ المبادرة في العالم المعيش".

إن هذا التشتت لا يمنع الإنسان من استهداف اكتماله الأخلاقي في العالم المعيش، وبالتالي القدرة على الفعل وأخذ المبادرة" فبالنسبة لريكور "الفعل الإنساني موجه نحو غاية تتمثل في خير الإنسان، واكتماله السعيد، لهذا يجب علينا أن نغادر نظام "الأنا أقدر" الذي يتأكد في الإخضاع والنفي لكل مضمون من أجل الوصول إلى البحث عن الحياة الجيدة في نظام الواقع الفعلي، الحرية تتأكد وتنخرط بإتباع ألفاظ بسيطة، في الأشكال الملموسة، الاختيار، أو القرار، أو الالتزام التاريخي الذي يسميه ريكور بأسماء مختلفة، ممارسة، خطة حياة، مشروع حياة، مرجع.  

 

المراجع:

بول ريكور، بعد طول تأمل، السيرة الذاتية، ترجمة فؤاد مليت، مراجعة وتقديم عمر مهيبل، الدار العربية- ناشرون، منشورات الاختلاف، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 2006.

-Paul Ricœur, Ecrits et conférences 1 autour de la psycanalyse, Editions du seuil, paris, 2008.  

- Jean de dieu moleka liambi : la poétique de la liberté dans la reflexion de paul ricoeur, l’Harmathan, 2005.



تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة