08 Aug
08Aug


الانتربولوجيا في سياق الدرس اللغوي المعاصر

 "كلود ليفي ــ شتروس نموذجا"

 

أ.د/ بلعاليه دومه ميلود،جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف،الجزائر

 مخبر الأنساق، البنيات، النماذج والممارسات/ جامعة وهران 2

تمهيد:

إن التجديد الذي أحدثه "ليفي ستروس" على منهج تحليل وقائع القرابة، لا يعني مجرد تغيير في دلالة المصطلح أو مجرد إسقاط مفاهيمي لعلم اللسانيات على حقل جديد في الانتربولوجيا: هو حقل القرابة... لقد مس هذا التجديد بالدرجة الأولى تغيير "النموذج النظري" المتعلق بموضوع الدراسة نفسها، ومن ثم بطريقة المعالجة، إنه باختصار:"ثورة منهجية جديدة". ففيم يتمثل هذا النموذج النظري الجديد، وما هي القيمة التفسيرية التي ينطوي عليها بالنظر إلى حقل من حقول البحث الأنتربولوجي المحدد، ألا وهو حقل " أنظمة القرابة"؟

إن المقاربة اللغوية، أو بالأحرى اللسانية (Approche linguistique) التي أجراها " كلود ليفي ستروس" على مستوى تحليل وقائع القرابة، هي نتاج خيار منهجي له ما يبرره بالنظر إلى موضوع الدراسة نفسها، وليس الأمر اعتباطيا أو تعسفيا، بل إن أنظمة القرابة كموضوع أو كبنية، تستدعي مشروعية الإلحاق الذي قام به "ليفي ستروس"، ونقصد به إلحاق الظواهر الاجتماعية بالظواهر اللسانية، ولعل هذا ما جعل "ليفي ستروس" يقترح منذ البداية "اعتبار قواعد الزواج وأنظمة القرابة بمثابة ضرب من اللغة"1. لكن قبل أن نختبر مشروعية هذا الخيار المنهجي ومدى قوة تماسكه أمام محك النقد، يجدر بنا أولا فهم الأسباب التي كانت وراء قرار "ليفي ستروس" في تبني هذا الخيار دون سواه.

لقد أعلن "ليفي ستروس" بشكل صريح عن قراره المنهجي، القاضي باتخاذ النموذج اللساني في معالجته للظواهر الأنتربولوجية التي اهتم بها، وذلك في كتابه "الأنتربولوجيا البنيوية" قائلا: "يبدو أن اللغة هي الظاهرة الوحيدة، من بين جميع الظواهر الاجتماعية، المؤهلة اليوم لدراسة علمية حقا"2، وانطلاقا من هذا القرار يقترح "ليفي ستروس" على الأنتربولوجيا أن تستعير نموذجها التفسيري من علم اللسانيات. لكن اختيارا كهذا لن يكون مشروعا إلا بمقدار ما يكشف التحليل عن "تماثلات كافية" (Analogies suffisantes) بين موضوعات البحث الانتربولوجي المقصودة (أنظمة القرابة وقواعد الزواج...)، وبين موضوعات البحث اللساني ( الحدود البنائية للغة). فاشتراط وجود مثل هذه "التماثلات" من شأنه أن يبرر مشروعية إحداث تحويل منهجي ملائم، ومن ثم جعل هذا الحقل الأنتربولوجي المقصود "حقلا ملائما" للدراسة العلمية المستفادة من الدرس اللساني تحديدا، وفي نفس الوقت سيجعل هذا الإجراء قرار "ليفي ستروس"، من جهة في منأى عن وجوه النقد السطحي والمغرض أحيانا، ومن جهة ثانية يعيد الاعتبار لبعض "التحفظات الأساسية" التي سجلها "ليفي ستروس" ذاته، حتى يستبق تصحيح كل ما من شأنه أن يسيء فهم قراره الميتودولوجي فيما يخص علاقة الانتربولوجيا باللغة عموما.

اللغة والانتربولوجيا في سياق علاقتهما بالثقافة:

إن الحديث عن علاقة الانتربولوجيا باللغة عند "ليفي ستروس" لا تحيل فقط إلى مسألة العلاقة بين اللغة والمجتمع كما هو معروف منذ القديم، بل يتعلق الأمر بطرح المسألة من منظور منهجي جديد، أي بضرورة تحديد الطريقة التي يتم بواسطتها إمكان إخضاع الظواهر الاجتماعية والوقائع اللغوية أو اللسانية معا إلى نمط واحد من المعالجة، أي أن الأمر يتعلق تحديدا بالبحث عن "هوية شكلية" (Identité formelle) تجعل من موضوع القرابة "كما لو أنه" من جنس موضوع اللغة، ولعل هذا ما يبرر إلى حد كبير لجوء "ليفي ستروس" إلى استعمال مفهوم "التماثل"(Analogie) كإجراء منهجي للكشف، لا عن المماهاة أو المطابقة بين ظواهر القرابة و ظواهر اللغة، وإنما للكشف عن اشتراكهما في وحدة البناء الصوري، وبالتالي الإقرار بتماثلهما الكلي، ولكن بشرط وضعهما ضمن مستوى آخر من الواقع، أي ضمن عالم البنى المحكوم بمنطق العلاقة، الأمر الذي يسمح بإخضاعهما معا لسياق تفسيري واحد، هو التفسير البنيوي.

في سياق البحث عن مفتاح لهذه المقاربة المنهجية، يبدو أنه من باب أولى، وحرصا على تضييق الفارق بين حقلي القرابة واللغة، أن نقف عند نقطة أساسية يشترك فيها كل من الحقلين المذكورين، هذه النقطة هي "الثقافة"، ذلك أن هذه الأخيرة تعرف ابتداء بأنها "واقعة لغوية أساسا، أو هي حدث لغوي، وما الظواهر الأخرى إلا تمظهرات لهذا الحدث ذاته، وعلى هذا الاعتبار يصير مفهوم الثقافة، بالنظر إلى تقاطع البحث الانتربولوجي والبحث اللغوي، مفهوما إجرائيا ضروريا للقول بمشروعية التماثل المبدئي بين الانتربولوجيا واللغة. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل من الضروري طرح علاقة اللغة بالثقافة حتى يتم استكمال عناصر العلاقة التماثلية بين الظواهر الاجتماعية وبين وقائع علم اللغة أو اللسانيات، فكيف تتحدد صلة اللغة بالثقافة؟

لا نود طرح العلاقة بين الثقافة واللغة على مستوى الربط الظاهري الذي يستجيب في الغالب لجدل التأثير والتأثر، لأن في هذا الطرح استبعاد لمتطلبات قرار "ليفي ستروس" المنهجي المشار إليه سابقا. ما نود الوقوف عنده هو بيان مدى الصلة الباطنية التي تسمح بإقرار التماثل البنيوي على مستوى أعم من العلاقة، أي على مستوى "الاندماج الكلي للظواهر الانتربولوجية واللسانية"، بحيث يصير من الممكن إخضاع الكل لمنهج تفسيري واحد، تماما وكأننا أمام ما اصطلح عليه "مارسال موس" بـ:"الحدث الاجتماعي الكلي" (Fait social total)، وذلك لأن "الأمر يتعلق هنا بأنموذج ثقافي، إن لم يكن كليا، فهو على الأقل يخضع لكيفية واحدة في التطور"3.

إن صلة اللغة الباطنية بالثقافة، هي صلة معقدة، إذ يمكن النظر إليها من أكثر من ناحية: "فمن ناحية تبدو اللغة باعتبارها شرط لإمكان وجود الثقافة، ومن ناحية ثانية هي منتوج ثقافي، ومن ناحية ثالثة تبدو كمجرد عنصر من بين عناصر ثقافية أخرى"4. أما كونها شرطا للثقافة فلأنها "الملكة" التي تتحقق بواسطتها خاصية الانفصال عن نظام الطبيعة، والدخول في نظام الوجود الإنساني من حيث هو وجود ثقافي بالتعريف، أي كوجود ينتظم داخل شبكة معقدة من الدلالات والمعاني، وكأن اللغة من هذا الوجه هي صياغة للعالم وفق نظام المعنى المضاف للطبيعة، إنه ـــــ حسب ذات العبارة الموحية التي استعملها "كلود ليفي ستروس ذاته ــــ "نظام آخر للواقع"5 (Un autre ordre de réalité) ، أو بعبارة أخرى، تكون اللغة في هذا المستوى المفهومي هي المنتجة للدلالات التي تحملها الثقافة.

                أما إذا نظرنا للغة من الناحية الثانية، أي من ناحية كونها منتوجا ثقافيا، فإنها تفهم بوصفها تعبيرات متموضعة في شكل مواقف جماعية وتقاليد ومؤسسات...

                وأخيرا تبدو اللغة في صلتها بالثقافة بوصفها عنصرا من ضمن عناصر ثقافية أخرى، لأنها جزء من العدة المادية والمعنوية الضرورية لبناء كيان المجتمع.

بناء على هذا النمط المحايث الذي يسم صلة اللغة بالثقافة، يمكن اكتشاف عناصر هوية بنيوية بين اللغة والثقافة، وبنفس الكيفية اكتشاف التماثل البنيوي بين اللغة والانتربولوجيا، خاصة وأن الثقافة ـ كحقل للدراسة العلمية ـ هي موضوع الانتربولوجيا بامتياز. هنا بالذات تبدو مشروعية تدخل النموذج اللغوي (المستفاد من الدرس اللساني تحديدا) في الحقل الانتربولوجي الخاص بأنظمة القرابة، ويصير بالإمكان تفعيل ما يمكن أن نسميه "بإجراءات المماثلة" (Procédés d'analogie) بصورة منهجية ملائمة، أي وفق شروط تستدعيها طريقة البناء الصوري المحددة لنظامي اللغة والقرابة، وليس بالنظر إلى طبيعة المضامين أو الموضوعات، والتي تظل مختلفة وغير قابلة لأي ضرب من ضروب المطابقة أو الاختزال.

اللغة والانتربولوجيا في سياق النشاط التواصلي:

ما يجب التنبيه إليه هنا تحديدا، "أن "ليفي ـ ستروس" يركز ابتداء على الانتماء المشترك لكل من اللغة والثقافة إلى حقل مفهومي واحد هو: حقل "الأنظمة الرمزية"، ومن منطلق هذا الانتماء يقترح "ليفي ـ ستروس" فرضية عمله المنهجي الأساسية وهي القول بوجود تماثل بنيوي، كما ذكرنا من قبل، بين الثقافة واللغة، ومن ثم بين الأنتربولوجيا واللسانيات، وهو الأمر الذي يكفي للتدليل على مشروعية استيراد النماذج اللسانية من طرف الانتربولوجيا.

غير أن "ليفي ـ ستروس" لا يقف عند هذا المستوى من التدليل، "بل يلجأ، كتدعيم لحجته، إلى الاستعانة "بمفهوم أكثر اتساعا وأكثر قابلية للتعميم، ومن ثم قابليته للاستعمال بشكل أكثر انفتاحا من جهة العلوم الإنسانية: إنه مفهوم "التواصل"(Communication)"6.

يبدو أن استدعاء مفهوم التواصل، كمفهوم إجرائي، من شأنه أن يساهم أكثر في توضيح الصلة بين الانتربولوجيا واللسانيات، خاصة مع أنظمة التواصل التي راجت بفضل ما يعرف بنظرية السبرنتيكا وتأثيراتها الكبيرة على مختلف الأبحاث في مجال العلوم الإنسانية. لقد استطاعت هذه النظرية أن تعيد الاعتبار بصورة كاملة للثقافة ولدور المؤسسات الاجتماعية، لا من حيث هي كيانات مجردة أو مفاهيم كلية وحسب، بل من حيث هي تعبيرات عن أنشطة تكتسي معقولية داخل أنظمة التواصل الاجتماعي، والتي يرجعها "ليفي ـ ستروس" إلى مبدأ التبادلية (Principe de réciprocité). إن اشتراك هذه الأنظمة في القيمة التواصلية هذه سمحت لـ:"ليفي ـ ستروس" بأن يسعى لتوحيدها عبر ثلاثة مستويات للتبادلية:

مستوى التبادل الاجتماعي الذي يظهر في أنظمة القرابة وقواعد الزواج.

مستوى التبادل الاقتصادي والذي يظهر في شكل تبادل الممتلكات والخدمات.

مستوى التبادل اللغوي أو اللساني، والذي يظهر في تبادل الرسائل اللغوية

                لقد عبر "ليفي ـ ستروس" على هذا التبادل كمبدأ لتأمين التواصل في جميع مستوياته، إذ يقول في ذلك مايلي: "فلأن قواعد القرابة والزواج تعمل على تأمين تواصل الزوجات بين أعضاء المجموعة البشرية الواحدة، فكذلك تعمل القواعد الاقتصادية على تأمين تواصل الممتلكات والخدمات، وكذلك تعمل القواعد اللسانية على تأمين تواصل الرسائل"7.

لكن وفي المقابل، يجب أن نؤكد على مسألة كثيرا ما كانت محل سوء فهم لموقف "ليفي ـ ستروس"، خاصة من قبل منتقديه الذين رأوا في توحيد مستويات التبادل الثلاث توحيدا تعسفيا، يتجاهل الفروق النوعية الخاصة بكل مستوى على حدة، وينتهي إلى نقل حرفي لنظام التواصل اللساني، ومن ثم فرضه على بقية أنظمة التواصل الأخرى. في حين أن هذا النقد لا يلبث أن يتهاوى، وذلك بمجرد التذكير بطبيعة الخيار المنهجي الذي تبناه "ليفي ـ ستروس"، حيث لم يقصد هذا الأخير، عبر مسعاه التوحيدي السابق، القفز على الفروق القائمة بين صيغ التبادل الثلاث، بل ظل يلح على أن الأمر يتعلق تحديدا بإجراء منهجي هو ـ كما ذكرنا ـ "إجراء مماثلة" ليس إلا، وفرق شاسع بين التطبيق الحرفي لمنهج اللسانيات، وبين التحويل المنهجي الملائم من حقل إلى آخر، خاصة في ظل شروط تماثل بنيوي واضحة، ولعل هذا ما نستشفه مباشرة من الصيغة التحذيرية التي ضمنها "ليفي ـ ستروس" في قوله التالي : "إن أمانة النقل الحرفي لمنهج علم اللسانيات يعد بمثابة الخيانة الحقيقية لروح هذا العلم ذاته"8.

إن هذه الصيغة التحذيرية التي يتضمنها هذا القول تبين لنا أن " ليفي ـ ستروس" على وعي تام بالمسافة التي تفصل نظام اللغة ( كما يتحدد في نموذج اللسانيات البنيوية) عن نظام القرابة ( كما تكشف عنه الدراسة الانتربولوجية)، ولعل هذا ما لخصه بدقة "ليفي ـ شتروس" حين قال: "إن القرابة ليست لغة، بل هي بمثابة لغة" (La parenté n'est pas langage; elle est comme un langage) .

ومن هنا فإن الأمر لا يتعدى، كما قلنا سابقا، "عملية مماثلة في الشكل أو الصورة، وليس في الوظيفة مطلقا"10.

واضح إذن أن الأمر لا يتعلق بأي توحيد أو مماهاة بين اللغة وأنظمة القرابة، خاصة إذا ما علمنا، بالإضافة إلى ما سبق، أن "ليفي ـ ستروس" كثيرا ما نبه منتقديه ـ تفاديا لكل سوء فهم ـ إلى أنه سبق وأن اقترح، بشكل واضح وصريح، استبعاد فرضيتين: "إحداهما تفصل بين النظامين (اللغة والقرابة)، والأخرى تلك التي ترى وجود تضايف كلي بينهما، وعلى جميع المستويات"11، بل إنه من الواضح جدا أن "ليفي ـ ستروس" يرفض القول بالتماهي المطلق بين اللغة ونظام القرابة أو بين اللغة والانتربولوجيا عموما، "من خلال موقفه النقدي من الأطروحات الخاصة بما يصطلح عليه بمابعد ـ اللسانيات الأمريكية (Métalinguistique américaine) في الخمسينيات، التي كانت تبحث عن تطابقات كلية بين حدود اللغة، المعدة جيدا، وبين الملاحظات الإثنوغرافية ذات الطابع التجريبي الخالص"12 ، وكأنها بهذه الكيفية تسعى جاهدة، كما يقول "ليفي ـ ستروس"، إلى"المقارنة بين موضوعات ليست من طبيعة واحدة، ومن ثم تنتهي إما إلى مغالطات، وإما إلى فرضيات هشة"13.

أما فيما يتعلق باستعمال مفهوم التواصل وبإمكانية توظيفه لصالح مشروعية "المماثلة" بين اللسانيات وبين أشكال التبادل في أنظمة القرابة وعلاقات الزواج، فإن "ليفي ـ ستروس" يقدم التوضيح التالي:"إن هذه الأشكال الثلاثة للتواصل هي في ذات الوقت ثلاثة أشكال للتبادل، حيث تكون العلاقات القائمة بينها ظاهرة ( لأن علاقات الزواج تكون مصحوبة بخدمات اقتصادية، وأن اللغة تتدخل على جميع المستويات). ومن هنا يكون مشروعا البحث عن "مماثلات" فيما بين هذه المستويات، ثم عن الخصائص الشكلية لكل نمط مأخوذ على حدة، ثم عن التحولات التي تسمح بالمرور من نمط إلى آخر"14. وهكذا فإن الأمر لا يتعلق بإحداث مماهاة بين الحقول أومطابقة بين الموضوعات والمضامين. لكن السؤال الذي يجدر بنا طرحه في هذا السياق هو: أي حقل بحثي داخل علم اللسانيات يصلح أن يكون نموذجا ملائما لدراسة موضوع ينتمي لحقل أنتربولوجي محدد، ونقصد به "موضوع القرابة"؟

الفونولوجيا (علم الصوتيات) كنموذج تفسيري:

لا شك أن تاريخ العلم المعاصر يكشف أن هناك تعاون متبادل بين الانتربولوجيا واللسانيات التاريخية والفيلولوجيا وعلم الاجتماع، لكن هذا التعاون لا يصل إلى مستوى درجة إحداث "ثورة منهجية"(Révolution méthodologique) ، الأمر الذي يختلف مع "ليفي ـ ستروس"، حيث يمكن الحديث فعلا عن "ثورة منهجية"، اتسمت بها أعماله خارج دائرة التبادل المعرفي في صورته الكلاسيكية، وميزته في ذلك أنه سعى إلى استعارة أسلوب دراسته من نموذج لساني محدد هو "الفونولوجيا" أو علم الصوتيات(Phonologie)، وذلك لأن هذا العلم كان قد حقق قفزة نوعية في سياق الضبط العلمي لموضوع دراسته. لقد اعترف " كلود ليفي ـ ستروس" بفضل العالم "تروبتسكوي" (Troubetskoi)الذي شعر بدين كبير نحوه، خاصة في العمل الذي أنجزه ضمن مقال له عام 1933 والذي حدد فيه الأربع نقاط الأساسية لعلم الصوتيات الجديد. فهذه النقاط الأربع شكلت برنامج البحث الانتربولوجي لاحقا لدى "ليفي ـ ستروس"، وتتمثل هذه النقاط حسب "تروبتسكوي" فيما يلي15:

لا تكتفي الفونولوجيا بدراسة الظواهر اللغوية الواعية، بل تتجاوز ذلك إلى دراسة بنيتها العميقة اللاواعية.

لا تهتم بدراسة الحدود اللغوية ككيانات مستقلة، إنما يهمها الطابع العلائقي لهذه الحدود

تدرج الفونولوجيا في دراستها مفهوم النظام أو النسق (Système)

 تستهدف اكتشاف القوانين العامة، سواء بطريق الاستنباط أو بطريق الاستقراء، وهو الأمر الذي يمنح لهذه القوانين طابع الكلية، ومن ثم صلاحيتها التفسيرية، تماما مثلما هو الحال في علوم الطبيعة، ومن هنا اتخذها "ليفي ـ ستروس" نموذجا تفسيريا لأي علم اجتماعي (الانتربولوجيا خاصة) يطمح إلى بلوغ ما يعرف بخاصية العلمية (Scientificité). لقد عبر"ليفي ـ ستروس" عن ذلك قائلا:"إنه للمرة الأولى، يصل علم اجتماعي إلى صياغة علاقات ضرورية"16، وبهذا تكون الفونولوجيا لدى "كلود ليفي ـ ستروس" بمثابة النموذج النظري للعلوم الاجتماعية، الذي يجعلها تقف في نفس مستوى الموضوعية التي تتصف بها علوم الطبيعة, وهذا هو الذي يشكل في اعتقادنا قيمة عمل "ليفي ـ ستروس"، على الأقل في منحاه المنهجي.

إن هذا التعاون بين عالم اللسانيات وبين عالم الاجتماع (الانتربولوجي) لا يتعلق بمدى مشروعية عملية تبادل المعلومات أو بعملية استكمال التحليلات، بل يتعلق تحديدا بمعرفة ما إذا كانت المادة التي يدرسها هؤلاء قابلة لأن تعالج بنفس الكيفية التي يعالج بها عالم الصوتيات أصوات اللغة. فبالنسبة لليفي ـ ستروس يعد هذا الإجراء أكيدا، على الأقل في حقل انتربولوجي محدد هو حقل القرابة، يقول في هذا الصدد ـ مؤكدا هذا الإجراء ـ ما يلي:"تعد حدود القرابة، مثلها مثل الفونيمات، مكونات للدلالة، فهي لا تكتسب هذه الدلالة إلا بشرط اندماجها في أنظمة(...) فكل من أنظمة القرابة والأنظمة الصوتية يتم إعدادها ضمن طوابق الفكر اللاواعي"17.

لكن هذا لا يعني ـ كما يذهب بعض منتقدي "ليفي ـ ستروس"ـ أن إلحاق حدود القرابة بحدود الصوتيات (الفونيمات)، هو إلحاق باعتبار وحدة الموضوعات في كل منهما، بدليل أن "ليفي ـ ستروس" أبدى تحفظات على هذا الضرب من الإلحاق، مؤكدا على الوحدة الصورية، أو هوية الشكل بين الحقل الأصلي، ألا وهو اللسانيات و تحديدا الفونولوجيا، وبين حقل القرابة باعتباره حقل التطبيق، ومن ثم فإن "ليفي ـ ستروس" يلجأ إلى فرضية "المماثلة" المنهجية تفاديا لكل ضروب سوء الفهم التي أحاطت بمقاربتة ومن ثم رمته بالتعسف في القول بالمماهاة بين موضوعات الحقلين الدراسيين.

بناء على ما سبق، يبدو أن النموذج النظري الذي استعاره من اللسانيات قد أثبت قدرة تفسيرية فعالة على مستوى البحث الانترتولوجي، وهذا متى وضعنا في حسباننا مراعاة شرط أساسي هو: صياغة مشكلة العلاقة بين اللغة والانتربولوجيا على صعيد "نظام آخر للواقع"، هو الواقع المبني وفق استراتيجية "التمثيل" أو "المماثلة"، لا وفق منطق المماهاة والمطابقة.

الهوامش:

1 ـ Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, Plon, Paris,1958, P.69

2 ـ ibid, P.66

3 ـ Lévi-Strauss, les structures élémentaires de la parenté,nouvelle édition revue Haye,1967,P.62

4 ـ Cf. Hénaff, Marcel, Claude lévi-Strauss et l'anthropologie structurale, Belfond,1991,P.105

5 ـ ibid, P.106

6 ـ ibidem

7 ـ Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, ouv.Cité, P.95

8 ـ ibid, P.43

9 ـ Hénaff, ouv.cité, P.107

10 ـ ibidem

11 ـ Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, ouv.cité, P.90

12 ـ Hénaff, ouv.cité, P.108

13 ـ Lévi-Strauss, Anthropologie structurale, ouv.cité, P.97

14 ـ ibid, P.96

15 ـ Cf. Hénaff, ouv.cité, P.109

16 ـLévi-Strauss, Anthropologie structurale, ouv.cité, P.40

17 ـ ibid, P. 41





تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة