11 Jul
11Jul

جرأة القراءة "محمد أركون" 


الأستاذ رفاس نور الدين، المركز الجامعي البيض

مخبر: الأنساق، البنيات، النماذج والممارسات، جامعة وهران2


لقد"عقد محمد أركون موعدا معرفيا مع تراث الإسلام في لحظة مبكرة من منتصف القرن المنصرم  وما كان موعدا سريعا وعابرا موعده، وإنما امتد وأزمن حتى تولد منه اقتران لم ينفصم بين الرجل وموضوعه فتكاد لا تذكر الواحد منهما من دون قرينه"[1]، إن هذا الاهتمام تجسد في البحوث التي أفردها أركون للتراث الإسلامي في فكره حتى أضحى يشكل شقه الأكبر، إذ قادته النظرة النقدية إلى الكشف عن الكثير من الحقائق التراثية في الإسلام أو اللامفكر فيها بشكل حاسم، لأن "من يعرف محمد أركون يعرف أنه لا يملك أن يتجاهل حقائق التاريخ والاجتماع والثقافة ويقفز عليها بدعوى الكونية، ذلك أن الكونية عنده ليست محوا للتاريخ والاجتماع  وإنما إدراجا لها في الدورة العالمية بما هي لحظة مختلفة فيها"[2]، يركز أركون على الجانب الاجتماعي والتاريخي في دراسته للتراث الإسلامي وللنص الديني في الإسلام، وهو في ذلك يتبع المناهج الغربية في مجال علوم الإنسان والمجتمع والتاريخ، "أما عدة العمل من أدوات ومناهج ومفاهيم فغنية بما يتجاوز المتداول في البحث العلمي في البلاد العربية المعاصرة، وهو إذ يستعيرها من الفكر الغربي يعيد اختيار كونيتها ويخضعها لتجربة اختبار جديدة في حقل جديد عليها وتخرج منها أكثر ثراء وخصوبة، هكذا هي قراءته التي أطلقت في وعينا أسئلة جديدة وفتحت أمام البحث في الإسلاميات آفاقا أرحب"[3]، ومن ثم فإن اهتماماته العلمية والمعرفية إنما تسعى إلى تحري الموضوعية والتثبت من طبيعة الأحداث التاريخية بالبحث عن انعكاساتها الإنسية والأنتروبولوجية، كما أن "محمد أركون – ثانيا- يتحرك في مجاله الطبيعي إذ يتناول الإسلام بالدرس والنظر، وليس القصد من ذلك أنه مسلم أو ينتمي إلى تدين غالبيته بالإسلام، وإنما القصد أنه يملك معرفة موسوعية بها: عقيدة وحضارة وتاريخا ثقافيا"[4]، إذ مكنته ثقافته الواسعة من الاطلاع على التراث الإسلامي والعربي والبحث في المشكلات الفكرية والثقافية والسياسية التي خصته،  و"لكن قراءات محمد أركون أتت مختلفة كثيرا عما سبقها وعاصرها من قراءات: في الموضوعات (thèmes) والفرضيات والأدوات، فهو لم ينح في الدرس والقراءة منحى العموم أو التعميم، وإنما اختار من الموضوعات ما يقبل السيطرة عليه واستشكاله وما يسمح بانتقال علمي سلس وغير منفعل، من الجزئي إلى الكلي، من الحالة المفردة إلى البنية الجامعة"[5]، فهو مثلا حين يتناول بالدراسة والتحليل والنقد مشكلة من مشكلات التراث الإسلامي يستعين في ذلك بعدة مناهج إجرائية محدثة ويعمل على دراستها بمفردها ليبين خصائصها وميزاتها ومن ثم ينتقل إلى ربطها بغيرها من الظواهر أو المشكلات المماثلة لها أو المختلفة عنها، من خلال الاستعانة بأدوات المقارنة المنهجية والمعرفية في ضوء المعطيات الاجتماعية والتاريخية، إن دراسته للظاهرة الإسلامية وإن كانت تخص المجتمعات الإسلامية في خصوصها إلا أنه لا يعزلها بشكل نهائي عن المجتمعات غير المسلمة وإنما يكشف عن الظاهرة في إطارها الإنسي والأنتروبولوجي العام، فـ"إذا كان الإسلام لا يعني غير المسلمين فهو يعني المسلمين ويعني الذين يعيشون في مجتمعاتهم، بل هو يعينهم أكثر لأن الإسلام يمارس أعلى درجات التأثير في حياة الإنسان في تلك المجتمعات، ولأن ثمة من يريد الاستيلاء عليه واحتكار تأويله ورواياته"[6]، إن سعة النظر التي تتميز بها المقاربة الأركونية جعلت أرائه ومواقفه تبدو أكثر انتقاديه لكل موروث يتم التسليم به دون دراسة علمية ومنهجية كافية خاصة إذا ما تعلق الأمر بالنص الديني الذي شكل المرجعية اللاهوتية للمجتمعات الإسلامية المعاصرة، وهو يقف هنا في وجه التوظيف الإيديولوجي للدين وضد كل نزعة تحتكر تأويل وتفسير النص الديني وفق رغباتها وإيديولوجياتها الخاصة، لأن "القراءة الأركونية عندما تتوجه بالنقد للخطاب الموروث فهي تحاول تفكيكه موظفة عدة مناهج مترامية الأطراف من معين العلوم الإنسانية والاجتماعية هدفها تكسير الدوغمائي العقلي المغلق الذي كان وراء تحجيم النص الديني وحجب مقصديته المنفتحة على الكون والإنسان"[7]، إن الوقوف ضد مزاعم العقل اللاهوتي الدوغمائي جعل أركون يرفض كل تلك التفسيرات والتأويلات التي لا تلتزم بخط العلوم الإنسانية والاجتماعية ومناهجها العلمية المختلفة، وهو في ذلك يقف ضد الاستخدامات الإيديولوجية التي يكرسها العقل الدوغمائي، من خلال تأسيسيه لمفهوم العقل المنبعث أو العقل المستنير الذي يكشف عن الحقيقة الاجتماعية والتاريخية للنصوص الدينية، إذ "تكمن أهمية مقاربة أركون على الرغم من المآخذ المنهجية العديدة التي يسوقها النقاد في شأنها والتناقضات التي لاحظوها أنها تسعى إلى رفع القداسة والأسطرة عن النصوص التي اكتسبت في الضمير الديني مكانة مخصوصة"[8]، إن أركون لا يعزل النص الديني عن مضامينه الاجتماعية والتاريخية وإنما يسعى إلى تضمين النص الديني في التاريخ الفعلي والبشري من أجل الكشف عن كل أبعاده، وبالتالي فهو يقف هنا ضد كل تلك الافتراضات المسبقة والقبلية التي يتداعى لها أنصار الخطاب الديني في الإسلام أو التي أسس لها العقل الإسلامي المعاصر من دون دراية علمية ومنهجية كافية في مجال علوم الإنسان والمجتمع واللغة والتاريخ.

 


[1] - عبد الإله بلقزيز، "قراءات في مشروع محمد أركون الفكري، ندوة فكرية"، منتدى المعارف، بيروت، الطبعة الأولى 2011، ص 11

[2]  - المرجع نفسه، ص 12

[3] - عبد الإله بلقزيز، "قراءات في مشروع محمد أركون الفكري، ندوة فكرية"، المرجع السابق، ص14

[4]  - المرجع نفسه، ص 12- 13

[5] - المرجع نفسه، ص 14

[6]- المرجع نفسه، ص 12

[7]- عبد المجيد خليقي، عبد المجيد خليقي، "قراء النص الديني عند محمد أركون"، منتدى المعارف، بيروت، الطبعة الأولى، 2010. ص17

[8] - محمد حمزة، "إسلام المجددين"، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2007، ص 94

   

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة