حديث السبت في حلقته الرابعة
الأستاذ بن مزيان بن شرقي
جامعة وهران2
رأيت اليوم أن أعود لشاعر تمثل الشعر العربي في لحظة مهمة من تاريخ الحركة الشعرية العربية في المهجر، هو وغيره ممن استطاعوا أن يقفزوا بالقصيدة العربية من عمودها القديم لعمود جديد سمي بالشعر الحر. أعود للشاعر إيليا أبي ماضي بقصيدة من أجمل قصائده خاصة في عمقها الفلسفي. والقصيدة على طولها أردت أن أحتفظ بها كما هي لأهميتها وبالصورة التي نقلتها بها من أحد مواقع الشعر العربي. وسأشرح بعد ذلك لماذا وقع الإختيار على الشاعر والقصيدة.
الطين
نسي الطين ساعة أنه طين … حقير فصال تيها وعربد
وكسى الخزّ جسمه فتباهى، … وحوى المال كيسه فتمرّد
يا أخي لا تمل بوجهك عنّي، … ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
أنت لم تصنع الحرير … الذي تلبس واللؤلؤ الذي تتقلّد
أنت لا تأكل النضار إذا … جعت ولا تشرب الجمان المنضّد
أنت في البردة الموشّاة مثلي … في كسائي الرديم تشقى وتسعد
لك في عالم النهار أماني، … وروءى والظلام فوقك ممتد
ولقلبي كما لقلبك أحلا … م حسان فإنّه غير جلمد
أأماني كلّها من تراب … وأمانيك كلّها من عسجد؟
وأمانيّ كلّها للتلاشي … وأمانيك للخلود المؤكّد؟
لا فهذي وتلك تأتي وتمضي … كذويها وأيّ شيء يؤبد؟
أيّها المزدهي إذا مسّك السقم … ألا تشتكي؟ ألا تتنهد؟
وإذا راعك الحبيب بهجر … ودعتك الذكرى ألا تتوحّد؟
أنت مثلي يبش وجهك للنعمى … وفي حالة المصيبة يكمد
أدموعي خلّ ودمعك شهد؟ … وبكائي ذلّ ونوحك سؤدد؟
وابتسامتي السراب لا ريّ فيه؟ … وابتسامتك اللآلي الخرّد؟
فلك واحد يظلّ كلينا … حار طرفي به وطرفك أرمد
قمر واحد يطلّ علينا … وعلى الكوخ والبناء الموطّد
إن يكن مشرقا لعينيك إنّي … لا أراه من كوّة الكوخ أسود
ألنجوم التي تراها أراها … حين تخفي وعندما تتوقّد
لست أدنى على غناك إليها … وأنا مع خصاصتي لست أبعد
أنت مثلي من الثرى وإليه … فلماذا، يا صاحبي، التيه والصّد
كنت طفلا إذ كنت طفلا وتغدو … حين أغدو شيخا كبيرا أدرد
لست أدري من أين جئت، ولا ما … كنت، أو ما أكون، يا صاح، في غد
أفتدري؟ إذن فخبّر وإلاّ … فلماذا تظنّ أنّك أوحد؟
ألك القصر دونه الحرس الشا … كي ومن حوله الجدار المشيّد
فامنع اللّيل أن يمدّ رواقا … فوقه، والضباب أن يتلبّد
وانظر النور كيف يدخل لا … يطلب أذنا، فما له ليس يطرد؟
مرقد واحد نصيبك منه … أفتدري كم فيك للذرّ مرقد؟
ذدتني عنه، والعواصف تعدو … في طلابي، والجوّ أقتم أربد
بينما الكلب واجد فيه مأوى … وطعاما، والهرّ كالكلب يرفد
فسمعت الحياة تضحك منّي … أترجى، ومنك تأبى وتجحد
ألك الروضة الجميلة فيها … الماء والطير والأزاهر والنّد؟
فازجر الريح أن تهزّ وتلوي … شجر الروض – إنّه يتأوّد
والجم الماء في الغدير ومره … لا يصفق إلاّ وأنت بمشهد
إنّ طير الأراك ليس يبالي … أنت أصغيت أم أنا إن غرّد
والأزاهير ليس تسخر من فقري، … ولا فيك للغنى تتودّد
ألك النهر؟ إنّه للنسيم … الرطب درب وللعصافير مورد
وهو للشهب تستحمّ به … في الصيف ليلا كأنّها تتبرّد
تدعيه فهل بأمرك يجري … في عروق الأشجار أو يتجعّد؟
كان من قبل أن تجيء؛ وتمضي … وهو باق في الأرض للجزر والمد
ألك الحقل؟ هذه النحل تجي … الشهد من زهرة ولا تتردّد
وأرى للنمال ملكا كبيرا … قد بنته بالكدح فيه وبالكد
أنت في شرعها دخيل على الحقل … ولصّ جنى عليها فأفسد
لو ملكت الحقول في الأرض طرّا … لم تكن من فراشة الحقل أسعد
أجميل؟ ما أنت أبهى من الور … دة ذات الشذى ولا أنت أجود
أم عزيز؟ وللبعوضة من خدّيك قوت … وفي يديك المهند
أم غنيّ؟ هيهات تختال لولا … دودة القز بالحباء المبجد
أم قويّ؟ إذن مر النوم إذ يغشاك … والليل عن جفونك يرتد
وامنع الشيب أن يلمّ بفوديك … ومر تلبث النضارة في الخد
أعليم؟ فما الخيال الذي يطرق ليلا؟ … في أيّ دنيا يولد؟
ما الحياة التي تبين وتخفى؟ … ما الزمان الذي يذمّ ويحمد؟
أيّها الطين لست أنقى وأسمى … من تراب تدوس أو تتوسّد
سدت أو لم تسد فما أنت إلاّ … حيوان مسيّر مستعبد
إنّ قصرا سمكته سوف يندكّ، … وثوبا حبكته سوف ينقد
لا يكن للخصام قلبك مأوى … إنّ قلبي للحبّ أصبح معبد
أنا أولى بالحب منك وأحرى … من كساء يبلى ومال ينف
بغض النظر عن صاحب القصيدة وأهميته فإن قصيدة الطين تعتبر في رأيي مواصلة لتيار برز بقوة داخل الشعر العربي، وأعني بذلك تيار فلسفة الوجود لكل من ابي العلاء المعري، وأبي العتاهية، ويمكن إضافة أخرين حتى من غرض الرثاء كما هو حال مع الخنساء. لهذا التيار تصورات وجودية ومواقف من الحياة ومن الموت، من الخوف، ومن الانسان تمثل في رأيي طريقا مهما للتفكير في قضايا أنطولوجية داخل الفكر الفلسفي العربي. وليس عيبا أن يأتي التفكير الفلسفي من روح الشعر بل أن الشعر نفسه هو فلسفة في الحياة. أراد شاعرنا أن يعود لقضايا فلسفية متعددة تتعلق بالوجود فاختار الطين تمشيا مع الاعتقاد الديني الذي يتمثل خلق الانسان من طين، لا للتقليل من قيمة الانسان بل للتذكير بأصل الخلق وبالتالي أتت القصيدة العربية مرافقة ومدعمة لمعني الوجود كما تمثله الدين من ناحية. ومن ناحية ثانية أن غرض التذكير هنا ليس عودة للذاكرة بل تأسيس لمعني السلوك السوي من خلال بناء فلسفة ورؤية للتصرفات ولذلك عمل الشاعر بأن يغرف من وعاء الذاكرة لكي يذكر الإنسان بما هو وبما عليه من واجب إنها لعبة المرآة العاكسة. يبدو أن هذا الأمر لو سحبنا عليه لغة التحليل النفسي خاصة مع لاكان سيفتح لنا أبواب متميزة، والتساؤل/ المخرج بالنسبة لهذا الأمر يتوقف على الكيفية التي نتعامل بها مع القصيدة من حيث أنها حامل لتصور أو لإمكان تصور عن معني الذات. إنها الذات المجروحة الممزقة un sujet brisé بهموم الدنيا، أنها الذات المفكرة في معني الزمن الآتي وليس الزمن الماضي، إنها باختصار الديمومة القابلة للتزمن، وهذا هو في رأيي الجانبال مهم من فلسفة الوجود التي لم ننتبه إليها داخل الشعرية العربية لأنني لم نفهم قول الشاعر:
يا أخي لا تمل بوجهك عنّي، … ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
شكرا لكم وإلى السبت القادم مع شاعر.
بن شرقي بن مزيان