11 Jun
11Jun

الفلسفة التطبيقية ...لماذا؟

الأستاذ موسى عبد الله، جامعة سعيدة

مخبر " تطوير" للبحث في العلوم الاجتماعية والانسانية.

 

ما التطبيق (من الناحية المفاهيمية)، وما الفهم المعاصر له؟ 

ما مهمة الفلسفة أساسا؟ وما علاقة الفلسفة بالواقع المعيش؟ 

هل التنظير والتطبيق متضادان أم متلازمان، حيث يكمل كل منهما الآخر؟ 

هل يمكن أن يكون هناك تطبيق بلا تنظير؟ 

  لا نرمي بمجموع الاسئلة وغيرها أن نقيم تعريفا أو بناء لمفهوم الفلسفة التطبيقية ، كما لا نرمي إلى اضافات معرفية ، سواء تعلق الامر بما ورد في تاريخ الفلسفة من نسق ونظريات أو حتى تنظيرات لاحقة مع فلاسفة عصرنا الحاليين ، لكن يكفي أن نلاحظ كم من مساهمة او مقال فلسفي اسهم او اُقحم في معالجة او في التفكير في "وباء كورونا". هل مفكري عصرنا من الفلاسفة او الباحثين والمهتمين كانوا مجبرين على ذلك ؟.لا اعتقد ، بل لأن الفلسفة لم تعد على وجه الافتراض كي  تعالج مشكلات الواقع المعيش..، مشكلات تبنتها فلسفات جديدة معاصرة، مثل الفلسفة النسوية وفلسفة البيئة والأخلاق البيولوجية.. وغيرها من الفروع الفلسفية التي ظهرت كاستجابة لمشكلات الواقع المعيش.

يقول الفيلسوف الامريكي "دفيد راسموسن" [1] بأن الفلسفة التطبيقية هي فرع فلسفي وجانب من جوانب الفلسفة يقوم باستخدام الطرح والمنهج الفلسفيين لمعالجة موضوعات ليست فلسفية بالأساس، وهذه الموضوعات عملية وواقعية، وتمس الحياة اليومية للإنسان المعاصر. " فالفلسفة الخالصة" إذن هي الفلسفة المطبَّقة على نفسها؛ أي على المشكلات الفلسفية، مثل طبيعة الواقع والحقيقة والمعرفة والأخلاق وهلم جرا، في حين "الفلسفة التطبيقية" هي الفلسفة المطبَّقة على المشكلات غير الفلسفية على نطاق واسع.[[2]] وهذا في مقابل الاعتقاد السائد والذي مفاده ان الفلسفة التطبيقية هي ما يقابل النظر(الفلسفة النظرية . في حين لو اعتبرنا أن الفلسفة لها منهجية خاصة في البحث وفي تناول المشكلات، فإنها تعتمد على مجموعة من المبادئ الموضوعية، التي يمكن استخدامها خارج الفلسفة، مما يؤهلنا لتناول العديد من المشكلات المعاصرة التي تمسّ الحياة اليومية للبشر مستعينين بهذه المنهجية المنضبطة، وهذا هو الفرع الجديد والمصطلح عليه بالفلسفة التطبيقية.

يؤكد مرة أخرى "راسموسن" بقوله: "إن الفلسفة التطبيقية لا تتمثل في الأخلاق التطبيقية فقط، وإنما هي فقط الأكثر شهرة والأكثر دقة ومنهجية من البناء الفلسفي، ولكن هناك أيضا الإبستمولوجيا التطبيقية والميتافيزيقا التطبيقية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر".[[3]]

الفلسفة التطبيقية إذن، تقلب التقسيم الأفلاطوني للعالم وللأشياء، لتعود لتفكك عمق السطح، عمق الأشياء البسيطة، ولكن الجوهرية للحياة. إنها تمنح الإنسان فرص وأشكال الانشغال بالذات والولع بها، تدعوه لأن ينظر في ذاته وحول ذاته.
الفلسفة التطبيقية، بهذا المعنى، هي أسلوب للحياة وطريقة للعيش، على شاكلة الطرق التي كان الإغريق يحيونها بفلسفتهم ويعيشونها بتفلسفهم. إنها تلك الفلسفة المفعمة بالحياة، الفلسفة المحايثة التي تتحرر من التقاليد السكولائية للقرون الوسطى وآثارها في فعل التفلسف في الفترة الحديثة . وإذا كنا لا نشك في أن منطوق مثل هذه الدعاوى يحيل، دون جهد في التأويل، إلى ما ندعوه بالفلسفة التطبيقية، فإننا نضيف أن المفهوم يحيل إلى ما يعرف اليوم بفلسفة القرب. Philosophie D’approchement

هذه الفلسفة التي يتلخص مضمونها في الدعوة لمجاورة الأشياء القريبة والقريبة جدا. بمعنى أن نفكر في المحايث، في الأشياء التي نلامسها، أن نقيم بجانب الفرن. وهكذا، فعوضا من التيه في عوالم ألما وراء والاقتصار على النظر في أشكال المتعالي والاهتمام بالأشياء البعيدة والبعيدة جدا، تحتم الفلسفة التطبيقية على فيلسوف الحياة أن يغير مكان إقامته، أن يقيم في هذا العالم، كانسان بين الناس، لا أن يهرب من الواقع ويحتمي في برجه العاجي، داخل قلاع الميتافيزيقا . بهذا المعنى ينعت نيتشه أفلاطون "بالجبان" لهروبه من الواقع ، كما يصف سقراط "بعدو الحياة" لأنه اعتبرها لحظة محاكمته مرضا عضالا، بل ولا قيمة لها.
إن الاشتغال بالأشياء القريبة، كالأمور العادية واليومية، يجعل الفلسفة تخالف أبواق الميتافيزيقا، فتفتح بذلك السبل للتساؤل عن الحياة كما نحياها. وكل ذلك لهدف أصيل هو خدمة هذه الحياة، هنا والآن.
- هنا تتغير المقاربة، فيصبح السؤال البسيط إشكالا فلسفيا بامتياز، وتغدو الأشياء التي تم تهميشها وإقصاؤها من طرف الميتافيزيقا ذات أولوية، ولذا فمواضيع مثل التغذية، اللباس، المناخ...تصبح مواضيع ذات أهمية إن لم تكن هي صلب الاهتمام الفلسفي، طبعا في الفلسفة التطبيقية .
الفلسفة التطبيقية، وفق هذا التصور، تقتضي قلب المعادلة، تغيير العادة التي ظلت الفلسفة التقليدية ترهننا داخلها. فبدلا من الحديث عن المثاليات والمطلقات، يصبح التفلسف متعلقا بكل لحظة من اللحظات الحميمة التي تهم الكائن في كينونته، في وجوده، وحتى في غرائزه الأكثر عمقا. يصبح الحديث عن مفاهيم الفلسفة التقليدية مجرد حديث عن المطلقات، علما أن كل مطلق وكل مثالية هي أشكال مرضية نابعة من غرائز مريضة. لا عجب إذن اليوم، أن نجد اليوم انتشارا واسعا للفلسفة التطبيقية في الغرب . وصحيح أننا نصادف في تاريخ الفلسفة - من عهد الإغريق إلى اليوم - إشارات لعدة مواضيع تحسب على الفلسفة التطبيقية، كما نشتم نفحات لهذا التطبيق عند كبار الفلاسفة المحسوبون على أهل النظر. ومن ذلك مثلا : التسلية واللهو عند باسكال، مكر العقل مع هيجل، إنزال الفلسفة من السماء إلى الأرض عند ماركس أو عالم الحياة مع هوسرل [4]...لكن اعتماد الفلسفة التطبيقية معناه اعتبار الفلسفات كمختبرات تجريبية تتم فيها صياغة مجموعة من الوصفات المعتمدة في تدبير الحياة، " فمدرسة الفيلسوف هي عيادة طبية " كما يقول "إبيكت" Epicket. إن الفلسفة النظرية بمختلف أشكالها وأصنافها، تقليدية أو حديثة أو معاصرة، هي السبب في نفي ونكران الحياة. بل هي المسؤولة عن تعاسة الإنسان وبؤسه ومعاناته وأمراضه. وغياب الفلسفة التطبيقية وعدم التداول في الأمور التي تهم الإنسان بشكل مباشر نتج عنه تدمير الإنسان. هذا ما يوضحه مثلا نيتشه بقوله :" الجهل بالأمور اليومية التافهة وعدم امتلاك عينين تبصران جيدا، هو ما يجعل من الأرض بالنسبة لكثير من الناس حقلا من التعاسة". 

 

إن غياب الفلسفة التطبيقية يستلزم بالنسبة للإنسان سحق ذاته، قتل غرائزه، ومن تم قتل كل ما هو جميل في الحياة. والسبب هو بالنسبة للناس :" عدم معرفتهم لما ينفعهم أو يضرهم في تنظيم حياتهم في تقسيم الأيام، في معاشرتهم للناس وفي اختيار من يعاشرون في العمل ووقت الفراغ في الأمر والطاعة في الإحساس الذي تثيره الطبيعة والأحاسيس التي يثيرها الفن في الغذاء والنوم والتفكير".
أما اعتماد (الوضعية المشكل) فلا ضرورة له. فالفلسفة كلها إشكاليات ووضعيات مشاكل . فلا داعي للتكلف لخلق وضعيات وهمية ومتخيلة. وهذا لا يتأتى إلا بتغيير النظرة لعلاقة الفلسفة بالإنسان . بتغيير تعريفنا للفلسفة ذاتها. بتجاوز الفلسفة النظرية واعتماد فلسفة تطبيقية. فالفلسفة كما تعاش، الفلسفة كما نحياها هي ما يجب أن يستند له تدريس الفلسفة.

 

وعوض تركيز اهتمامنا على تدريب المتعلم على اجترار مواقف فلسفية مقطوعة الوصال، ندفعه أن يفكر ويفعل انطلاقا من القضايا المعيشة، المسائل الراهنة. وهنا سيظهر فضل اعتماد مقتضيات الفلسفة التطبيقية. كما ستظهر حاجتنا إليها. فما أحوج مجتمعاتنا للفلسفة التي بها نحيا.

 

يمكن أن نلاحظ بسهولة أن أغلب الجهود الفلسفية تنظر دائما إلى المستقبل، فالسؤال الذي تسعى إليه الفلسفة التطبيقية هو: ما الذي يصلح لهذا الإنسان؟ وهذا سؤال عن المستقبل، فالفلسفة تحاول أن ترسم تصورا وطريقا ورؤية للمستقبل ضمن حقل الدراسة. بل أكثر من ذلك؛ السؤال مثلا عن مستقبل الفيزياء هو سؤال فلسفي، كذلك السؤال عن مستقبل الذكاء الاصطناعي وأين يمكن أن يصل؛.

 


مما يدفعنا للقول أن الفلسفة ليست عادة منفصلة عن الواقع ولا عزوفا عن المستقبل؛ بل الدافع الأول لها هو محاولة اكتشاف أفضل طريق للمستقبل. فالممارسة السياسية مثلا إذا كانت فارغة من نظرية سياسية تأخذ في الاعتبار القيم الإنسانية العليا؛ سوف لن يكون لها مستقبل. “من لم يزد شيئا على الحياة فهو زائد عليها”- كما يقال. ولعلّ من أكثر مهام الفلسفة التطبيقية لُزوما اليوم أن تكون قولا في الرّاهن البشري والتزاما بمحاولة فهمه، وهو أمر نبّه إليه الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس عندما تساءل: عن “ما فائدة الفلسفة؟ ” (هابرماس، 1975، ص 25) [5]، مبينا أنه: "على الفلسفة أن تتخلّى عن ادّعاء المعرفة المطلقة، وأنّه ينبغي لها أن تكون تفكيرا في شكل وجودنا، الآن وهنا". إننا نحتاج إلى تدبّر السّمة الغالبة على شكل وجودنا الرّاهن في العالم، وما يحدُث فيه، وما هو، في الحاضر، جديرٌ بالمعنى بالنّسبة إلى التّفكير الفلسفي.

 

ولذلك نحن مطالبون في هذا المقام، ليس عرض تعريفات الفلاسفة للفلسفة تاريخيا، فأمر كهذا يظل من باب الإحصاء لا من باب النظر والتمحيص، نحن مطالبون بالتنبيه إلى ما يبرر الحاجة إلى التفكير الفلسفي في عصرنا الراهن[6]. أعني أن الأمر لا يتعلق بالنسبة إلينا بالحديث عن الفلسفة كموضوع أو كإرث معرفي أو الاحتفاظ بأكبر قدر من المعلومات بقدر ما يتعلق بتدبر ما يجعلنا اليوم في حاجة إلى التفكير الفلسفي كممارسة ومنهج في مقاربة الأشياء وموقف من الحياة.إن خلاصة الفلسفة؛ هي الحكمة. وخلاصة التفكير الفلسفي هو استمرار ودوام حب الحكمة. الحكمة هنا تعني التطبيق السلوكي للمعرفة، حكمة يستطيع الإنسان تطبيقها أو تمثلها على أرض الواقع. باعتبارها الأعلى شأنا والأكثر قيمة وأهمية. 

 

ولأن الفلسفة التطبيقية أساسا راهن لحظي.

 

  • أ. د. موسى
  • مخبر " تطوير" للبحث في العلوم الاجتماعية والانسانية.
  • جامعة د. مولاي الطاهر .سعيدة

 


   



[1]   - دافيد إم. راسموسن (بالإنجليزية: David M. Rasmussen) هو أستاذ جامعي وفيلسوف أمريكي، ولد في 1937.

[2]   - ليزا سعيد أبوزيد مقال : هل الفلسفة تطبيقية فعلا ؟ موقع مؤمنون بلا حدود  قسم  –دراسات وابحاث - باحثة مصرية، متخصصة في دراسات المرأة والجندر. من بين منشوراتها: " في نظرية المعرفة النسوية" (سلسلة الكتاب الأول للباحثين الشبان، العدد الأول، الجمعية الفلسفية المصرية، 2019. 

[3]  - ليزا سعيد أبوزيد-  المرجع السابق.

[4]  - انظر مقال تفروت لحسن - في الحاجة الى -الفلسفة التطبيقية- موقع الحوار المتمدن .html

[5]  - انظر مقال نورالدين الشابي . هل من معنى للتفكير الفلسفي اليوم؟ _ مجلة الفلق الإلكترونية.html

[6]  - مقال تفروت لحسن - نفسه.

   

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة