19 Jun
19Jun


خطاطة التفكير في واقع معقد 

                                                             

 أ.د.بومحرات بلخير، قسم علم الاجتماع، جامعة وهران2

مخبر الأنساق، البنيات، النماذج والممارسات


 

لا مناص إذن من التفكير حول الجزائر في جميع الجيوب الممكنة وإبداء الآراء والأفكار،  التي تقوم على مقاربة الفهم، بغية الإحاطة بالمجالات  والحقول الواجب التفكير فيها عاجلا، وما وجب الطموح إليه برفع سقف المطالب للتروية فيها لاحقا؛ والحذر من وضع حدود الإقصاء والمنع بما يسمح التفكير فيه، ويستحيل التفكير فيه بحجة ترتيب الأولويات المحددة.

 السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه ويجعلنا نواجهه فعليا والذي من خلاله نهدف أيضا إلى كشف إستراتجية التفكير حول الجزائر:

  • يكمن في معرفة طبيعة الأدوات والمفاهيم التي نفكر بها حول مستقبل الجزائر، هل هي أدوات واعية بجوهر الصراع الذي حايث مسألة التحديث منذ الاستقلال-على الأقل لنتفادى السقوط في نفس المثالب- أم هي أدوات تحاكي الراهن والحاضر بكل ما يمليه من جديد ومختلف عن سابقه ؟
  • من زاوية السؤال المطروح يبدو أن مسألة التفكير في عدم السقوط في نفس الأخطاء، يعد مكسبا ودرسا حقيقا به نستطيع أن نتفاهم ونتصالح مع ذاتنا دون تدخل طرف آخر، وهذا رهان استراتجي ينبغي تثمينه. وفيما يتعلق بطرفي السؤال أي بدايته ونهايته، فقد أخدت نصيبها ومكانتها على مستوى النخب والبحث العلمي؛ وأصبحت هاجس المفكرين والمثقفين، رغم اختلاف المراجع، والخلفيات الفكرية والأدوات والمفاهيم، إلا أنهم يشتركون في معلمين اثنين، هما العقل والتاريخ اللذان بواسطتهما يستطيعان توحيد صفوفهم بغية إيجاد تفكير فعال ونفعي، لحجم المطالب المرفوعة الناجمة عن  الجدل الحاصل بين العقل والواقع.
  •      وفي باطن السؤال تظهر أيضا، الجهة الفاعلة و المخولة لاختيار طريقة وشكل التفكير، فإننا نجد أنفسنا مع أحد طرفي الثنائية، وكل طرف لم يتمكن من أن يستوعب الطرف الآخر، فتظهر لغة الاستهزاء والتهويل، ويعد كل طرف على نفسه بأنه العارف بمعمعات الحداثة، وذلك بتنصيب نفسه الرجل المناسب للظرف الراهن، مع أنه في الواقع متخلف عن أسئلة الحاضر المطروحة. بغية أن يكتمل المشهد يوجد فاعل آخر يمتاز بسرعة التكيف واقتناص الفرص، عن طريق المراوغة والتحايل والقدرة على التهويل لادكاء الشك في كل ما يقدم، بغية تحقيق مآرب خاصة له، وفي كثير من الأحيان يجعل من نفسه بيدقا طائعا في أصابع من يحركوه باتجاهات مختارة مسبقة، منافية لمسألة الأخلاق  والولاء، الواجب التحلي بها كإنسان.

يذهب العديد من المفكرين إلى إعادة التفكير في التراكم التاريخي وفي آليات وأدوات التفكير التي اُستخدمت فيه والتي عملت منذ وقت طويل، فالبعض يرجع سبب الفشل إلى ما هو أصيل والبعض الآخر يقف في نقيض الأطروحة، وكلا الموقفين يعبرا في الواقع عن مسرحية تغذيها نزعات أنانية وظرفية تحكمها سياقات بعيدة عن منطق العقل والتاريخ، الشيء الذي يستلزم منا طريق آخر مختلف في الطبيعة والهدف والمسار يولد لنا تجربة فريدة وغزيرة وذلك بإلمام ثلاث مكونات، التحكم في العلوم والتقنيات  العالمة المعاصرة، التواصل بتجاربنا التاريخية والإحاطة بها، والوعي الذي يكون البوصلة التي من خلاله نحقق المقاصد والمطالب المنشودة لصالح المجتمع.

هذه هي الوصفة أو الخطاطة التي تخلق الانسجام والتكامل فالبعض يحاول أن يشكك فيها ويصورها في صورة تحامل البعض ضد البعض الآخر - ذلك لحاجة في نفس يعقوب-  بغية إجهاض العملية في بواكرها، أو تضييع خارطة الطريق بهدر الوقت، وتشتيت الجهد وإحلال الريبة والشك في النفوس فيتسرب اليأس والإستيلاب ونعد من حيث أتينا دون تقديم أجوبة لطلبنا المجتمعي. خطاطة التفكير بهذا الأداء يتطلب إدخال الحكمة والتدبر، لجعل المكونات الثلاث متجانسة ومتلازمة في إدراك الواقع بتقديم الأجوبة الكفيلة لترصد الشتات والتنافر والإخفاق الذي لازم الواقع، إنها في واقع الأمر خطاطة واعية لاستيعاب كامل الطاقات المشكلة للمجتمع بصورة وفية لإرثه التاريخي وتطلعاته المستقبلية.

فالتركيز على المعارف العالمة المعاصرة  والوعي يمكن أن ندخله في مفهوم العقل و تجاربنا التاريخية  تدرج في إطار التاريخ؛ هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن التجارب التاريخية لا تمت بصلة بالعقل، حيث أن هذه التجارب في نهاية المطاف هي علاقة بين العقل والوجود في لحظة تاريخية معينة. يمكن بلغة الرياضيين أن نختزل التحكم في المعارف العالمة المعاصرة، معرفة تجاربنا التاريخية والإحاطة بها، والوعي، بالعقل والتاريخ .

بعد هذه التوضيح، نبادر بالقول أن كلا من العقل والتاريخ يُعتَبَران أداتان فعالتان في إصلاح الذات المتكائلة نتيجة جملة من الأسباب التي يطول شرحها الآن. لذلك ما نهدف إليه أن نستعيد التوسع في نطاق الحرية المسؤولة والملتزمة التي تعرف حدودها- بعيدا عن كل أشكال الفوضى والعدمية التي ما زلنا لحد الآن ندفع ثمنها - وذلك نحو تدوين التاريخ في اتجاه يعمل على تسجيل حضورنا بحجز مكانة لائقة بين الأمم، يكون طابعه الأنس والانفتاح، يشيع ضيائه في ذلك الظلام الدامس فيشتت ويفرق التوحش والانغلاق  الذي كان دائما وأبدا هوسا يهدد نسيجنا المجتمعي.

التعليل المذكور يهدف إلى تثمين الفرصة بغية إدراك حجم الرهان والتحدي، الذي يقتضي نوع من الالتزام والتعقل والصبر، وذلك بإحداث تحولات في مسار التاريخ، حيث أننا نتحول من متفرجين على ما يحدث في تاريخ إلى فاعلين فيه بإدراج خصوصيتنا المحلية في ما هو كوني. هنا يظهر المعلم الأنيق والمعنى العميق لمفهوم التفكير، الذي يُظهر هدفه الأساسي بالتدقيق في الوسائل الناجعة لربط الفكر المعاصر بواقعه وطلباته.


بومحراث بلخير



تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة