تنويه:
فاجأني الصديق الأستاذ بن مزيان بن شرقي بهذا المقال الذي احتفظ به مخطوطا منذ سنة 2006، حين عقد قسم الفلسفة بجامعة وهران ملتقى دوليا حول الفلسفة والعولمة وعمل على رقنه وتوضيبه، اشكره جزيل الشكر على صنيعه هذا. وبهده المناسبة اهدي هذا المقال الى روح الصحفي في اذاعة وهران الجهوية الأستاذ محمد شامخ رحمه الله الذي حضر معنا كل فعاليات الملتقى.
« La logique est le dernier refuge des gens sans imagination «
Oscar Wild
يعتبر السرد الروائي من أهم المميزات الملتصقة بالإنسان في إنتاج فوضاءات خيالية، تحاول الإجابة عن ما استعصى عليه العقل إلى رحابة التأمل، ولعل تاريخ الفلسفة يبين بشكل واضح ثنائية العقل والخيال، وفي كل أطواره كان الفلاسفة دائما، يحاولون ترتيب العلاقة بينهما، أفلاطون في محاوراته ينتصر دائما لغلبة "اللوغونس logos "العقل" على الدوكسا" "Doxa" "الظن"، "الخيال" في نظريته للمثل، ثم ديكارت الذي جعل من المخيلة موطنا للخطأ....وكانط الذي حاول ترتيب كل هذا في نظريته النقدية للعقل الخالص وملكة الحكم، إلى أن جاء نيتشه "Nietzsche" وعمل على قلب الأفلاطونية وكل تبعاتها، ثنائية تختصرها المواجهة بين أبولون وديونيزيوس.
السرد، بشكل عام لا يصف الواقعة الموضوعية، ولكن خيال السارد هو الذي يوحي إليه انطلاقا من استبطان الواقع، فأوسكار وايلد Oscar Wilde مثلا، في إحدى قصائده النثرية، يحكي كيف أن الواقعة الموضوعية تهرّب منها الخيال وتجفف منابع الإبداع: "كان هناك رجلا محبوبا لدى جميع سكان قريته، كانوا يحبونه كثيرا، لأنه راويا بارعا، يحكي لهم قصصا كل ليلة، لأنه يخرج كل صباح من قريته، ولما يعود في المساء يتجمع حوله كل سكان القرية، ويلحون عليه أن يحكي لهم ما رأى اليوم:
يبدأ الرجل يحكي:
لما وصلت على الشاطئ، رأيت ثلاثة عروسات للبحر، يتمايلن مع أمواجه، ويمشطن شعورهن الخضر بأمشاط من ذهب.......................
وفي إحدى الصباحات، غادر الرجل القرية كالمعتاد، لكن لما وصل إلى شاطئ البحر، هناك رأى ثلاث عروسات البحر يمشطن شعورهن الخضر بأمشاط من ذهب......واصل الرجل تجواله وهو مندهش، ولما عاد في المساء إلى قريته طلب منه سكانها كالعادة أن يحكي لهم ما رأى، فرد قائلا: لم رأى شيئا"(1).
فالمبدع، إذن لا ينادي على العقل وإنما إلى الخيال كي يخلق ويبدع نصوصه، لأن الخيال هو ملكة إنسانية نستطيع بواسطتها أن نجنح من الواقع، وأن نهرب من قفص العقل والولوج إلى حرية حدسية وليست استدلالية.
الأجناس السردية على العموم، والرواية بالخصوص، ترتبط بفعل انقلابي لأنها تكشف عن السجلات الغائبة والمختفية للذات والواقع على حد سواء، لأن الرواية لها استراتيجية في إعادة ترتيب الفضاء الرمزي للإنسان ومحايثته بواقعه، ماضيه، حاضره ومستقبله، ويتمثل ذلك في القبض وتعقل جبهات مفتوحة من طرف الآخرين: مؤسسات أفراد، أفكار ووعي......، فالراوي أو الكاتب هو معارض، مثقف سياسي، مؤرخ....أو هو باختصار لا يهادن هؤلاء جميعا، لأنه يخترق سجلاتهم، يكشفها، يعريها ويبين يتمها وفقرها.
لعل تداعيات العولمة وانعكاساتها على الغرب والشرق دفعت بالكثيرين من ذوي الاختصاصات المختلفة إلى تحليل هذا المفهوم من جوانب مختلفة: سياسيا، اقتصاديا وفلسفيا...لكن في المدة الأخيرة وبعد أحداث 11 سبتمبر، اتجهت مجموعة من الكتاب إلى تخييل العالم المعاصر من خلال هذه التراجيديا وتبعاتها على أكثر من صعيد- عن طريق الرواية محاولة تفكيكه رمزيا من خلال عوالم سردية: خيالية وفلسفية ينتصب فيها السؤال القديم/الجديد: ما مستقبل الإنسانية؟
ظهرت في الآونة الأخيرة مجموعة من النصوص التي لها علاقة بموضوع الرواية والعولمة، اخترنا منها ثلاثة نصوص روائية، كلها مكتوبة باللغة الفرنسية: هي سنون وات كابول (2)، وكوكابيا Globalia (3)، ونوافذ على العالم Windows on the world (4) والملاحظ عن هذه النصوص أنها أتت بعد الزخم الكبير للكتابات النظرية والاستشرافية التي تبشر بالنهايات: وتتعاطى مفاهيم: العولمة، نهاية التاريخ، نهاية الإنسان.....إلخ. لكن أن تدخل الرواية إلى هذا المجال، يبقى هو الحدث الجدير بالاهتمام والقراءة، لأول ما يميز هذا الصنف من الرواية بشكل خاص، أنها تحاول فهم وتفكيك العواطف والصراعات الداخلية للمتصارعين، وهذا تقريبا ما يعنيه أرسطو بالتراجيديا.
بالنسبة لرواية "سنونوات كايول"، للروائي الجزائري ياسمينه خضراء، تحاول رصد ظاهرتا العنف والتطرف في صورتهما العولمية من مدينة كابول، فهي تحمل نظرة وحشية عن الانعطاف الذي وصل إليه الأفراد فيها، نحو الجنون والبرابرية في أقصى صورهما، يصف ياسمينة خضراء، هذا العالم، أو هذه المدينة أو ما تبقى منها، أنها في: "حالة تعفن متقدمة. وأن الرجال قد أداروا ظهورهم للصباح لمواجهة عتمة وظلام دامس، سنونوات كابول، شخصوها أربعة يعشون حالة رعب دائمة رجلين وامرأتين: السجان (عتيق) وزوجته المريضة "مصرات" والمثقف البرجوازي "محسن" وزوجته المحامية "زنيرة"، كلهم ينتظرون انعتاق هارب في مقبرة، كل من فيها هو مشروع لنهاية فظيعة سنونوات كبول، طبعة عالمية للصراع الداخلي الذي يعيشه الأفراد في الشرق، بعد ما كتب محمد مولسهول رواية "بما تحلم الذئاب" التي حملت خصوصية جزائرية لهذه التراجيديا ذات العنوان الواحد: أن "الصلوات تنمحي وتتفتت في هيجان الرشاشات" وأين "أصبح الضحك خطيئة"، سنونوات كابول حكاية سوداء ومظلمة، مخيفة ومزعجة، حيث لا إنسان أصبح يعتقد في معجزات الأمطار أو أفراح الربيع، وبدرجة أقل في صباحات مقبلة ورحيمة، وفي هذا البالي الكبير للقذائف والصواريخ والقتل، تنبعث حرارة شديدة دفعت حتى الغربان إلى الانتحار.
أما رواية الطبيب الفرنسي "جون كرستوف ريفان" J.C.Rufin" هي رواية تحاول استشراف مستقبل الإنسانية مستلهمة بناؤها من فترة قريبة منا، فهو يقول عن كتابة هذه الرواية: "بأنها أعطتني شعور بالوحدة، لأنه عكس تحضير رواية تدور أحداثها في القرن الثامن عشر، هنا ليس لدينا أية مصادر للإطلاع عليها أو معالم نزورها، وفي هذه الحالة أنا من سيفرض قواعد اللعبة، لذلك سأتخيل الروابط بين عناصر هذه المادة الخام".
لقد تراوحت كتابة هذه الرواية بين التخييل والسرد والتحليل، حتى أن الكاتب سيفرد تدييلا نظريا، يشرح فيه هذه العلاقة بين هذين الشكلين من التعبير، لأن تجربته في منظمة أطباء بلا حدود وزياراته المتعددة لكثير من دول العالم الثالث، كتب عنها تحليلات نظرية كثيرة، وأن رواية Globalia لا تختلف كثيرا عن ما كتبه في تلك التحليلات لأن السؤال الذي ينتظمهما على حد سواء ويبقى ذا راهنية هو اللقاء بين الحضارات وتبعاته السلبية أو الإيجابية.
الشخصيات المحورية في رواية Globalia، هما Kate (فتاة) و "Baikal" بينهما علاقة حب، ويعتبرون من مواطني كوكابيا "Globalia" وتعتبر هذه الأخيرة منطقة آمنة وليست لها حدود ذات نزوع ديمقراطي كبير، أين الحرية الفردية ليست مراقبة "فكل واحد حر في أفعاله، لكن النـزعة الطبيعية للبشر هي الإفراط في استعمال حرياتهم، أي في الاعتداء على حريات الآخرين لذلك كان الخطر الأكبر على الحرية، هو الحرية في حد ذاتها".
فالرواية تطرح مسألة الحرية، أي كيف يمكن الدفاع عن الحرية والذوذ عنها من الحرية نفسها؟ لذلك كانت "كوكابيا" Globalia، تضمن الأمن، لأن الأمن هو الحرية، والأمن هو الحماية والحماية هي المراقبة، والمراقبة هي الحرية".
فـ Baikal، لم يكن يعتقد كثيرا في منطقة "كوكابيا" وفي نظامها الوقائي المصبوغ بقيم الحرية، حيث كان يصف هذا النظام بالآلي والدعائي، حيث لم يكن له إلا هدف واحد هو الهروب من هذه المنطقة، إلى منطقة أخرى، يتحقق له ذلك ويهرب مع "Kate"، فيلقى عليهم القبض، وهناك سيعرض على Baikal، عرض بالخروج من "كوكابيا" إلى منطقة أخرى، ليتجسس على الإرهابيين، الذين يهددون أمن "كوكابيا" وهذا العرض لم يكن إلا حيلة لإدامة توتاليتارية "كوكابيا".
إن هذه الرواية تطرح إشكالية مركزية لأنها تضعنا ضد المستقبلات الواهمة للعولمة، رغم التقنيات العالية والمهارات الكبيرة التي تتوفر عليها "كوكابيا" وتوفرها لمواطنيها، حيث يتم فيها علاج مرض مثل السرطان كعلاجنا لزكام عابر.
هذا التقدم هو في صالح الإنسانية، يجب الحفاظ عليه، لكن الشيء الذي يجب مقاومته هو العقلية الشمولية والمحافظة التي تتودد دائما إلى بسط نفوذها على جميع البشر، لأن هذا الجانب هو الذي يجب تدميره في "كوكابيا" لكي نضمن كل الفرص الممكنة للحرية.
على مسار هذه الرواية، نقرأ تقاطعات كبيرة بين تجربة بشخصوها وحوارتها وبين فلاسفة غربيين كشفوا استراتيجيات الليبرالية والديمقراطية مثل: جان بول سارتر J.P. Sartre، وجيل لبوفتسكي Gilles lipovetsky، وميشيل فوكو M.Foucoult، وحتى ألكسيس ذو توكفيل. Alxis de Tocqueville، الذي كتب عن الديمقراطية في أمريكا، يصف كاتب "كوكابيا" أنه أحس فيها بنفس حالة الخوف وشعوره الذي عاشه توكفيل بعدما وصف بشكل جيد كل المؤسسات الأمريكية بدايات القرن العشرين، حيث ختم توكفيل كتابة بالعبارة التالية: "لن أقبل أبدا لهذا الاستعباد، حتى لو مدته لي عشرات الآلاف من الأيادي"(5).
أما الرواية الثالثة: هي رواية "نوافذ على العالم" Windows on the world" لفريدريك بيقبدر Fredric beigbder، وأحداث هذه الرواية تبدأ من الساعة الثامنة والنصف إلى غاية العاشرة وتسعة وعشرون دقيقة، تحاول رصد ما حدث عند الهجوم الانتحاري على مركز التجارة العالمي.
يلخص كاتب الرواية روايته في عبارة بسيطة تنتظم كل الرواية، وموضوعها "أن الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما جرى في المطعم الموجود في الطابق 107 في البرج الشمالي لمركز التجارة العالمي يوم 11 سبتمبر 2001 من السعة 8H30 إلى 10H29، يجب إبداعه وتخيله".
فالرواية تحاول تقديم فكرة مركزية، وهي فكرة الموت، وهل الموت يستطيع خلق روابط بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض، لكن في هذا الوقت بالذات سيعرفون بعضهم البعض بتقاطع نظراتهم في هذه اللحظة القيامية، لأنهم جميعهم متوحدون في نهاية العالم".
ما تطرحه الروايات الثلاثة، هو أنها تلتقي بالمتخيل مع جنون العصر وسياساته القاتلة، تحاول السمو بالقيم الإنسانية النبيلة كالحب والعدالة والحرية والتسامح والاختلاف، آخذة من الخيال وسيلة لتجاوز إحباطات الواقع، ولأنه يعبر عن إمكانية مفتوحة في الوقت الذي تظهر فيه مجموعات وحركات وحتى أفكار للتهميش أو الانثناء والتمترس في الهويات، ذلك أن الخيال له صبغة إنسانية لا يمكن اقتصاره على أحد، ولا على فرد ولا أمة، بواسطته نستطيع أن نعرج على لا شعور العالم، لأنه الفضاء الحقيقي لتحقق إنسانية الإنسان، باعتباره يشكل التقاءا له، ليس المشكل أن تكون مع من، لكن المشكل هو أن تتخيل أو لا تتخيل.
------------------------
الإحالات:
القصة وردت في كتاب:
-1- Don pierre miquel/ Histoire de l'imagination- le léopard d'or Paris.1993
-Yasmina khadra/ les hirondelles de Kaboul- Julliard. Paris.2002 -2
-3- اقترحنا ترجمة لعنوان هذه الرواية إلى "كوكابيا" للحفاظ على الطابع العجائبي للرواية ولعنوانها باللغة الفرنسية.
Jean- Christophe Rufin/ Globalia/- Gallimard. Paris.2004
-4- Frédéric Beigbeder/ Windows on the world. Grasset.Paris 2003.
-5- أنظر إلى التذييل النظري المهم في آخر رواية Globalia والمقارنة التي يقوم بها الكاتب بين كوكابيا وأمريكا ص493 وما بعدها.