الفيلسوف الشهيد: هل قرأ الشهداءُ والمجاهدون الفلسفة؟
لم يكن بيان أوّل نوفمبر إعلاناً ثورياً فقط بل كان خطاباً يشتمل على أسلوبٍ وتصوّر فيه شيءٌ من روح الفلسفة، وقد يقول قائل أنّه من التعسّف والتكلّف والحذلقة إقحامُ الفلسفة في نصٍّ كتبه أشخاص كان همّهم العمل المسلّح والتحرّر من الاستعمار، ومَن ذا الذي كان مهتمّاً بالفلسفة في تلك الظروف، ولكنّي قد أُفاجئ هذا القائل، ربّما، بتذكيره بشهيدٍ فيلسوف، هو مصطفى بكوش (باتنة 1930-1960) الذي قرأ نيتشه، اسبينوزا وبول إلوار (Paul Eluard) وكتبَ نصوصاً وأشعاراً بروح فلسفية داخل سجن الكدية بقسنطينة ولم يُفلت من رقابة الإدارة الفرنسية إلاّ نص "مذكّرات مَنسيّ"، حيث كتبَ حينها الشهيد بكوش "اذهبي كرّاستي إلى المغامرة، لابدّ أن تخرجي، سأكتب أخرى"، كما أنّ المقصود بالروح الفلسفية في بيان أوّل نوفمبر هو تلك اللغة التي تتجاوز الوظيفة المباشرة للإعلان عن حدث الثورة والتعبئة والحشد إلى تصوّرات مركّزة وذات بُعدٍ إنسانيّ يعكس الحدث "التأسيسي" ويُخاطب الوعي الجَمْعي بعباراتٍ يستشعر القارئ أنّ شحنةً فلسفية تكون قد تسرّبت إليها.
الحُكم، الشهادة ومعركة الوعي:
يبدأ البيان بعبارة "أنتم الذين ستُصدرون حُكمكم بشأننا"، كما ورد في النسخة العربية، مع أنّها ترجمة غير دقيقة للنص الأصلي الذي كُتب بالفرنسية à vous qui êtes appelés à nous juger [أنتم المدعوون للحُكم علينا]، وهذا يعني أنّ البيان يستشعر "روح الأمّة" من خلال فعل الحُكم الذي يحمل طابعاً تاريخياً بما أنّه يتعلّق بفعلٍ تأسيسي مختلف عمّا سبقه، لا يربط المخاطبُ مضمون بيانه بالحدث (الثورة) فقط بل بما سيأتي من حُكم شعبي عليه، وهو في ذاته تشكيلٌ لروح شعبٍ له القدرة على إصدار الحُكم، أي إقرار "شهادة"، فهو حدثٌ يطلب شهادة (بالمعنى الفلسفي الذي قدّمه ريكور لمفهوم الشهادة، تلك التي تُعطي شيئاً ليُؤوَّل (..) بل لا يمكن تطبيق التأويل خارجها أبداً لأنّها رمزٌ للمعنى والحدث..(Ricœur, Lectures3, Aux frontières de la philosophie, pp.130, 131.، ولذلك ترِدُ في مقدّمة البيان عبارة ذات كثافة معرفية عالية (ورغبتنا في أن نُجنّبكم الالتباس الذي يمكن أن تُوقعكم فيه الإمبريالية وعملاؤها الإداريون وبعض محترفي السياسة الانتهازية) [مع أنّه وردت في النسخة الفرنسية عبارة politicailleurs véreux، والتي يمكن ترجمتها بـ "رجال السياسة المُخادعين والمُضلّلين]، فإلى جانب الهدف الأسمى الذي هو الاستقلال الوطني يأتي هدفٌ آخر يمثّل "معركة الوعي" في رفع الالتباس عن الشعب (éviter la confusion) وهو التباسٌ ليس سببه دعاية استعمارية أو حرب شائعات ظرفية بل سببها (الإمبريالية والسياسة المُضلّلة) أي أنَّ مصدر الالتباس والارتباك هو أفكارٌ إيديولوجية؛ فقد استهدف البيانُ معنًى كليّاً وليس سبباً جزئياً، فالالتباس لا يكون إلاّ في الوعي والتصوّرات، وقد رأى أنّ التضليل السياسي والتزييف الإيديولوجي أخطر على الشعب وثورته من العمل العسكري.
الوعي بالزمن، اليوم واللّحظة:
يُعبّر البيان عن "اللّحظة التاريخية" الفارقة بكلمة "اليوم" (Aujourd’hui)، في جملة (اليوم، هؤلاء وأولئك منخرطون بحزمٍ في هذا الاتجاه..) [الجملة الفرنسية: Aujourd’hui, les uns et les autres sont engagés résolument dans cette voie..، حيث وردت في النسخة العربية بشكل غير دقيق عبارة: إنّ كل واحد منّا اندفع اليوم في هذا السبيل..)، إنّ "اليوم" مفهوم له قوّته الفلسفية الهائلة، فاليوم كما يصفه هيدغر "بالمعنى الأنطولوجي هو حاضر ما هو كائن من أوّل وهلة، الـ "نحن"، الكينونة معاً، هؤلاء مع أولئك، إنّه زماننا (..) إنّه يعني أن يمتصّنا العالمُ وندخل فيه، أن نتحدّث من خلاله، أن نكون منشغلين" (Heidegger, Ontologie, herméneutique de la factivité)، فالبيان يتحدّث من خلال "اليوم" الذي أصبح يوماً يُعادل في وجوده أمّة (أوّل نوفمبر) والـ "نحن" التي قبله ليست كالـ "نحن" التي بعده، ففيه وُلد عالمنا ووُلدنا فيه، ولذلك فإنّ النحن التي تسبقه هي نحن متأخّرة عن الحدث، (أمّا نحن الذين بقينا في مؤخّرة الركب فإنّنا نتعرّض إلى مصير من تجاوزته الأحداث.. تجاوزتها الأحداث) (dépassé par les évènements)، أليس في هذا التعبير إدراكٌ عميق للزمن؟ إذ يُحدّد البيان "اليوم" الذي يرسم مبدأً بيانياً للحدث (الأحداث) وما قبله (سنوات طويلة من الجمود والروتين) وما بعده أي تلك اللحظة التي يتمّ فيها (خلق جميع الظروف الثورية للقيام بعملية تحريرية)، ليصلَ إلى وصف تلك اللحظة الحرجة في منعطف خطاب البيان بعنوانٍ مقتضب (الوضعُ خطير ! L’Heure est grave)، ولذلك (رأت مجموعة من الشباب المسؤولين المناضلين الواعين.. أنّ الوقت قد حان..a juger le moment venu )، وهي اللّحظة التي يجتمع فيها الوعيُ بالزمن، الفهم بالتاريخ، طلباً للحريّة حيث (رفض الاستعمار أن يمنح أدنى حريّة أمام وسائل الكفاح السلمية).
التوضيح ضدّ التضليل، التدليل ضدّ التأويل:
في نهاية البيان تُوضع أرضية مشرّفة (plateforme honorable) للفرنسيين (تحاشياً للتأويلات الخاطئة les faux-interprétations والمراوغات les faux-fuyants (العبارة الأخيرة لم ترِد في النسخة العربية)، وللتدليل على رغبتنا الحقيقية في السلم)، حيث أنّ البيان بدأ بغرض التوضيح (éclairer) ضدّ التضليل الإيديولوجي للشعب من جهة وانتهى بالتدليل ضدّ التأويل الخاطئ للفرنسيين من جهة أخرى؛ فالتوضيح هو المهمّة الأساسية للخطاب وتحديد أسباب عدم القابلية للفهم لدى المخاطَبين وأهمّها الالتباس والخطأ في التأويل، وهما من أسباب الاعتراض أيضاً (objection)، حيث يجعل من التدليل على صحّة مضمون الخطاب أمراً ممكناً وقابلاً للتصديق والتفكير.
أخيراً، دعوة إلى التأمّل:
يضع البيانُ نفسه أمام حُكم القراءة التأمّلية للمخاطَب بمناداته بخاصيّة الهويّاتية المشتركة (أيّها الجزائري ! Algérien) صفة المواطَنة الأساسية التي حدّدها البيانُ في عبارة (جميع المواطنين الجزائريين من جميع الطبقات الاجتماعية، وجميع الأحزاب والحركات الجزائرية [وردت في النسخة الفرنسية purement Algériens ولم ترد كلمة خالصة في النسخة العربية]، أنْ تنضمّ إلى الكفاح التحرري دون أدنى اعتبار آخر)، وهنا يُراهن البيان على قوّة التفكير والتأمّل العميق لدى المواطن الجزائري بعبارة (Algérien ! nous t’invitons à méditer notre charte ci-dessous) (أيها الجزائري ! نحن ندعوك لتُفكّر بعمق وتركيز في ميثاقنا أعلاه) [غير أنّ النسخة العربية كانت بعبارة: إنّنا ندعوك لتُبارك هذه الوثيقة].
هذه مجرّد ملاحظات أوّلية غير مطوّرة أحاول من خلالها فتح نافذة تأمّلية في العمق الفلسفي لتراثنا الثوري، ولأهمّ وثيقة تأسيسيّة فيه.. رحم الله شهداءنا الأبرار، المجد لثورتنا المباركة.