11 May
11May

  البيئة والإنسان، أو عندما تضمد الطبيعة جراحها


الأستاذ بن زينب الشريف، جامعة المدية

باحث بقسم الفلسفة، جامعة وهران2

مخبر الأنساق، البنيات، النماذج والممارسات


من الكلمة اليونانية Oikos، اشتق العالم الألماني أرنست هيكل Ernest (1834-1919) Haeckel عام 1886 لفظة الأيكولوجيا التي تعني منزل الأسرة، حيث نقل الدلالة المكانية من منزل الأسرة الضيق إلى كوكب الأرض، كمنزل عام و أرحب ، يسع جمع الموجودات. ليقدم بعد ذلك تعريفاً أكثر دقة على أن كلمة إيكولوجيا، هي دراسة مجموعة العلاقات التي تحكم الحيوان بالوسط الذي يعيش فيه، عفويا كان أو غير عفوي، بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن خلال هذا التعريف يتضح لنا أن المحيط الذي نعيش فيه لا يتسع للإنسان فقط، بل لكل كائن حي.
وفي عام 1909 يقدم جاكوب فون يوكسكل Jakob Johann Von Uexküll)1864- 1944) عالم البيولوجيا، مصطلح البيئة Environement والتي تعني الوسط الفيزيائي والكيميائي والبيولوجي، الذي يحيط بالكائن الحي، كما تم تقديم تعريف على أنها تلك الدراسة التي تهتم بالعلاقات المتبادلة بين الكائنات الحية والبيئة التي تعيش فيها فيزيائياَ و حيوياً، فالكرة الأرضية هي النطاق الايكولوجي الواسع الذي يشمل نطاقات عدة، من نطاق جوي، ونطاق مائي، ونطاق اليابسة، والنطاق الحيوي، وداخل هذه النطاقات توجد منظومات ايكولوجية صغيرة كالغابات والأنهار والصحاري والبحار ، و نجد نطاقات بيئية متناهية في الصغر تمثل عالم الأحياء الدقيقة الميكروسكوبية . وإذا أوردنا تعريف للبيئة، لابد من عرض مفهوم المتعلق بالبيئة، وهو النظام البيئي أو المنظومة البيئيةEcosystem على أنه تلك الوحدة البيئية الطبيعية التي تشمل جميع الكائنات الحية في منطقة معينة بالإضافة إلى العوامل الفيزيائية غير الحية لتلك البيئة، والتي تتفاعل معها الكائنات مما ينتج عنه نظام ثابت تقريباً 1، ويقوم النظام البيئي على ثلاثة قوانين تحدد حركية المنظومات الأيكولوجية لتضمن الاستمرارية للبيئة:
كل شيء مرتبط بكل شيء آخر على نمط شبكي يعبر عنه بمفهوم الاعتماد المتبادل ineter dependence فالعلاقة التي تحكم الموجودات علاقة تبادلية.
المحدودية limitation فالمواد الموجودة في المنظومة محدودة الكمية، بمعنى أنها قد تنضب في أي وقت، إلا انه هناك مواد متجددة مثل الكائنات الحية، وغير متجددة كالمعادن والنفط.
التعقيد COMPLEXITYوالتنوعDiversity، اللذان يؤديا إلى ثبات المنظومة البيئية واتزانها 2. فكل توازن في هذه القوانين يضمن توازن في المنظومة البيئية وكل إخلال بها- القوانين- يؤدي إلى تعريض البيئة للدمار.
وإذا كانت الفلسفة والبيولوجيا حملت على عاتقها مسألة الخطورة التي تهدد البيئة، فإن الأديان التوحيدية قد حددت هذه العلاقة في نصوص عدة، وإن اختلف الفهم حول مفهوم هذه العلاقة بين الإنسان والبيئة، حيث نعثر على بعض النصوص في الإنجيل تحدد هذه العلاقة في مفهوم السيطرة، مثل:« وباركهم الله وقال لهم: أثمروا وأكثروا واملؤوا الأرض، وأخضعوها وتسلطوا علي سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى كل حيوان يدب على الأرض 3»، يحث هذا النص الإنسان على ضرورة السيطرة على المخلوقات، ولكن لا يحدد مدى وحدود هذه السيطرة، بل هي مطلقة. وفي موضع آخر يقول:« وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وطير السماء، وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض 4»، فمجل النصوص في الكتاب المقدس تنصّ على ضرورة السيطرة والتسلط والتحكم في كل ما يحيط بالإنسان. أما في القرآن الكريم نجد أن فعل الإفساد كان معروف قبل خلق الإنسان في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ 5﴾، فلم تكن الغاية من خلق الإنسان الإفساد، بل الغاية هي التعمير، مع تسخير الموجودات لهذا الإنسان وهذا في قوله تعالى: ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها 6﴾، وقوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ 7﴾، وقوله تعالى:﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى8﴾، فالغاية من هذا الخلق هو التعمير والتشييد لا الإفساد والتدمير، فالخليفة الذي بشر به القرآن الكريم قد سخرت له كل الموجودات وهذا في مواضع كثيرة، ومنه قوله تعالى:﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ9﴾، وقوله كذلك:﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ 10﴾، وقوله كذلك:﴿ وَهوَّ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الأَرْضِ جَميعًا 11﴾، لهذا فالغاية من وجود هذه البيئة والوجود عامة هو إنجاز مهمة الخلافة في الأرض، لهذا لما خلق الله البيئة كانت مهيأة لاستقبال الإنسان.
غادر الإنسان كهفه، ليستعمر البيئة ويؤسس فيها مملكته، مخضعا الطبيعة لعقلانيته وتسارعه التكنولوجي إلى أبعد الحدود، مما جعلنا « نعيش في زمن التغير الاجتماعي والدور المهيمين للعلوم والتكنولوجيا وما توفره من سيطرة على الطبيعة والإنسان وما بدأته من خلع للفلسفة بوصفها ملكة العلوم عن العرش الذي كانت تجلس عليه»
واقع الإنسان اليوم في عالم الانفجار التكنولوجي. انفجار أفقد الإنسان إنسانيته، وحولته من ابن الطبيعة إلى عدوها الأول، فأفقدها عذريتها، وشوه جمالها، فبعد ما كانت رمز إلهامه و مؤنس وحشته، أصبحت مرتعا لتجاربه من أجل السيطرة والترويض. عبد الطرق وسوى الجبال، وأنشأ المصانع وابتكر واخترع، وراح يتدخل حتى في التركيبة البيولوجية للكائنات باسم الاستنساخ وتحسين النسل . ولكن ما انعكاس كل هذا على البيئة و الكائنات؟ تطور أصبح اقل ما يقال عنه أنه موبوء، وطبيعة مجروحة.
عندما كان الإنسان يعتقد بإحكام سيطرته على الطبيعة، بقلب المعادلة من خائف منها إلى المتحكم المطلق، كانت الطبيعة تعمل في صمت لتذكره أنه لا يزال ما تقوله، وها هي جائحة كوفيد19 المستجد تجبر الإنسان على شل نشاطاته الاقتصادية والاجتماعية أو التقليل منها وترسم الحدود التي يجب الوقف عندها. فاضطر إلى وقف حركة الطيران والقاطرات والبواخر مما جعل نسب التلوث وانبعاث الغازات تتراجع إلى مستويات منخفضة، كما أظهرت صور الأقمار الاصطناعية التي نشرتها وكالة الفضاء الأمريكية (NASA)و وكالة الفضاء الأوروبية، ذلك التراجع الذي شهدته الصين خلال شهريْ جانفي و فيفري في انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين، التي تنتج في الغالب عن استخدام الوقود الأحفوري Combustible fossile. الذي ساعد على تباطؤ حركة الاقتصاد في هذا البلد، بالتقليل من عدد العمال، أو غلق المصانع خلال فترة الحجر الصحي. كما اعاد الحياة المائية لقنوات البندقية و تقلص فجوة ثقف الأوزون. فبالرغم من كل المؤتمرات العالمية والتوصيات الخاصة بحماية البيئة إلا أن الدول العظمى تقرر امرا وتعمد إلى خلافه، فالإنسان لم يستطع المحافظة على بيته البيئي و لا احترام ساكنيها مما توجب تدخلها من أجل تضميد جراحها وإعادة ترتيب البيت البيئي.


---------------------------------------------

1- باتر محمد على وردم، قاموس البيئة العامة، مادة نظام بيئي.
2- Kumar, H.D, PP : 3-4.
3- تفسير الإصحاح 1 من سفر التكوين للقمص تادرس يعقوب(تك 1: 28). 
4- المصدر نفسه،(1: 26).
5- القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 30.
6- سورة هود، الآية 61.
7- سورة الأعراف، الآية 10.
8- سورة طه، الآية 53.
9- سورة إبراهيم، الآية 33.
10- سورة لقمان، الآية 20.
11- سورة البقرة، الآية 296.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة