البخاري حمانه ومالك ب نبي
ذكريات ومواقف
تقديم وإعداد : أ.د/ العربي ميلود، جامعة مستغانم
مخبر الأنساق، البنيات، النماذج والممارسات
أحاول في هذه الورقة أن أنقل إلى القارئ الجزائري والعربي عموما. أهم ما ورد في مداخلة للأستاذ الدكتور البخاري حمانه رحمه الله، ألقاها بجامعة مستغانم بملتقى نظمه قسم الفلسفة هناك حول فكر مالك بن نبي. وقد عنون مداخلته تلك بذكريات ومواقف مع مالك بن نبي. وهي عبارة عن شهادة حية للقاءات ونقاشات مباشرة بين الرجلين البخاري حمانه ومالك بن نبي رحمهما الله.
بمستغانم سنة 2015
وعليه سأحاول أن أنقل نص المداخلة الارتجالية التي ألقاها الدكتور البخاري حمانه بدون أن يحضر معه ولو ورقة أمامه. ولذا طلب مني تسجيلها وإعادة كتابتها وتنظيمها. سأطرح في هذه الوريقة أهم ما جاء بمداخلته على أن يتم نشرها كاملة لاحقا بمجلة التدوين.
نص المداخلة :
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أود في البداية أن أقدم شكري الحار لكلية العلوم الاجتماعية مستغانم ممثلة في قسم الفلسفة ومخبر الفلسفة والعلوم الإنسانية من مسؤولين وأساتذة وطلبة وطالبات، على هذه البرامج التي تحاول بعث الحياة في جسد نظن بكل حسرة أنه قد أصابه الموت، نشكرهم على هذه المبادرات لأن الثقافة هي رأسمال الشعب تستطيع بها أن تبني عمارات وتشق طرق، ولكن حين يكون الإنسان جاهلا فإن ما يبنيه في سنوات يحطمه ويخربه في دقائق. فالثقافة أساس التقدم وهي معيار قدرة الأمم على التفاعل مع واقعها وتاريخها.
عقب هذه الكلمة الموجزة أبدأ حديثي عن السيد المفكر مالك بن نبي، طبعا لن أتوقف طويلا عند فلسفته لأن السادة الأساتذة المتدخلين سيقومون بذلك بشكل أدق وأعمق، لكني سأتحدث ببعض الكلمات عن جوانب شخصية لمالك بن نبي الذي ولد سنة 1905 بقسنطينة وتوفي سنة 1973 بالجزائر العاصمة، تكوينه الأكاديمي كان في الهندسة الكهربائية، لغته وثقافته فرنسية كتب بها العديد من مؤلفاته حول العالم الإسلامي واقعا وأعمالا وتاريخا وتطلعا لما هو أفضل، تفضل مشكورا بترجمة معظم كتبه إلى العربية عبد الصبور شاهين، بدءا من الظاهرة القرآنية إلى آخر نصوصه بين الرشاد والتيه.
كان مالك بن نبي منشغلا إلى حد النخاع بالواقع الإسلامي، فكان همه وهمته العمل على إخراجه من هذه الورطة التاريخية والحضارية، فطرح معالم فكرية عديدة يعتقد على أنها قادرة على أن تصل به إلى أرض الأمل المنشود، كان نموذجه في هذا هو أن يصل العالم الإسلامي بدافعيته وطاقته الذاتية إلى ما كان عليه أيام الموحدين. رجل الموحدين هو نموذج لارتقاء الفرد الإسلامي ولتجاوزه لكل مشاكله وتداعياتها، ولإعادة صلته بتاريخه من جهة، وبمسيرة الإنسانية المتقدمة من جهة أخرى ، بذلك فقط يتحرر العالم الإسلامي سياسيا واقتصاديا ...الخ. من خلال هذا النموذج الذي تجسد له في رجل الموحدين.
في سنة 1984 عقد مؤتمر كبير ببجاية حضره المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم وثلة من المفكرين الكبار، كنت حينها أنا صوت النشاز الوحيد الذي قال أن ابن تومرت تحول من داعية إلى داهية وحول حلم الدعوة إلى حلم الدولة، كلامي هذا أثار مدينة بجاية كلها ظنا منهم أني أهاجم الأمازيغ، لكني لم أتوقف عند هذا الحد وقلت أنه سفاح، قتال، كذاب.. كل هذا قلته وهو موثق ومطبوع باسمي. وقد ثارت كذلك جامعة الجزائر ضدي بما فيها التيارات التي تتفاعل مع الأصول الأمازيغية....
برغم هذه الانتقادات لم أتزحزح عن موقفي . لذا يمكنني القول أن مالك بن نبي لم يوفق بتاتا حين اتخذ دولة الموحدين ورجل الموحدين نموذجا له لأنه قتل الناس وكان شديد الإيمان بالخرافات .. أشياء كثيرة كان يقوم بها تفوق حدود التصور. لذا بقيت مصرا مخالفا لمالك بن نبي في اعتماده هذه المرجعية. فهم تعاونوا مع الإسبان في محاربة أعداءهم وإعطائهم المغرب الأقصى الإسلامي........
بعد هذه الملاحظات ندخل في ذكرياتي مع مالك بن نبي، عرفته في العديد من المناسبات ولكنها كانت خاطفة. قبل الاستقلال بأربعة أشهر كنت رئيسا لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين وأنا عضو مؤسس فيه. كنت مسؤولا مع طالبين اثنين من بينهم العربي ولد خليفة.. دعوت مالك بن نبي ليلقي محاضرة للشباب فلبى الدعوة. وقد كان همي حينها محاولة تجنيد الشباب ليواكبوا من وجد منهم متعلما الاستقلال الجديد للجزائر. وقد ألقى بن نبي حينها محاضرة رائعة لا أتذكر نصها ولكن كانت في صميم المقصود الذي استهدفته أنا من دعوتي له.
بعد أن أنهيت شهادة الليسانس بجامعة القاهرة عرفت مالك بن نبي بعد ذلك كان عميدا لجامعة الجزائر ثم وزيرا للتعليم العالي ثم اشتغل كصحفي...الخ. وقد اجتمعت به في السبعينات لما كنت مديرا لوكالة الأنباء الجزائرية في الشرق الأوسط ومركزي هو القاهرة. كان حينها الأزهر ينظم العديد من الندوات العلمية وقد حضر مالك بن نبي العديد منها. وفي إحداها وهي التي تهمني جاء مع الشيخ النعيمي (من بسكرة). وهو عضو جمعية العلماء المسلمين. في يوم الافتتاح استقبلهم الرئيس جمال عبد الناصر، وقد كان بن نبي من أشد المعجبين به، وقد كتب عليه كتابا باللغة الفرنسية بمناسبة انعقاد المؤتمر الأفرو-آسيوي سنة 1958. المهم بعد اختتام أعمال الندوة نظم السيد السفير أنذاك الأخضر الابراهيمي وجبة غذاء بمنزله حضرتها أنا ومالك بن نبي والشيخ النعيمي، سألت بن نبي حينها عن استقبال جمال عبد الناصر له فقال لي أنا الأول من جاء وسلم عليه وكان فرحا بذلك جدا، غير أن الأخضر الابراهيمي أفسد عليه فرحته حين أخبره أنه إجراء بروتوكولي يعتمد الأبجدية والجزائر هي الأولى. ضحكنا كثيرا حينها وقلت للإبراهيمي لما أفسدت عليه غبطته.
المقابلة الثانية كانت دائما بالأزهر في ندوة حول الدين وقد كان بن نبي مصاب بوسواس غريب يعتقد أنه سيغتال بطريقة سرية. وقد ركبه هذا الوسواس منذ 1958 وكان يكتب رسائل شكوى لوزير الداخلية والحكومة المؤقتة أنذاك كريم بلقاسم. وهذا ما أخبرني به الشيخ النعيمي أن بن نبي لم ينم طيلة الليل وكان يتحدث كل الليل أنه سوف يغتال، وقد كلمته أنا في الأمر لكنه غضب وقال لي يلزمني أن أدافع عن نفسي. وفي الأصل لم يكن هناك أي داع أو ضرورة ليعيش هذه الحالة النفسية.
إلتقيته مرة أخرى ولكن ليس مباشرة عندما علمت أنه ذاهب إلى ليبيا ليعمل كمستشار للرئيس الليبي معمر القذافي، مع العلم أنه قد سبق لي خوض تجربة مع القذافي دامت يومين طلبت بعدها المغادرة لأني كنت أمنحه الاستشارة يمينا وهو يذهب يسارا. وبما أني كنت أعرف شخصية مالك بن نبي القوية وأنفته التي لا تتصورونها، نصحته بعدم الذهاب إلى ليبيا لأنه لن يتفاهم مع القذافي فأفكاره وعقليته فريدة من نوعها، لكنه ذهب وبقي عنده خمس سنوات كاملة، ولما عاد كتب آخر أعماله "بين الرشاد والتيه".
الجزء الثاني الذي أود الحديث عنه متعلق بمالك بن نبي وسيد قطب فقد التقيا في نقطة واحدة، فبعد أن كتب سيد قطب "نحو مجتمع إسلامي متحضر" . كان مالك بن نبي حينها بالقاهرة ووجد أن الكتاب طبع مرة ثانية لكن حذفت منه كلمة متحضر. وما جرى بينهما يحكيه سيد قطب بنفسه في كتاب معالم في الطريق ص 143 إلى ص 163. متحدثا عن اندهاش كاتب جزائري يكتب باللغة الفرنسية، عندما كتبت كتابي نحو مجتمع إسلامي متحضر ثم عدت بعدها لأحذف كلمة متحضر. يقول: حيث قال لي هذا الكاتب: أنت عندما تحذف كلمة متحضر فإنك تغطي المشكلة ولا تستطيع أن تصل إلى أن تستكشف مواطن الضعف والخراب في العالم الإسلامي. فعندما تقول كلمة متحضر بمعنى أنك غطيت المشكلة، لكن عندما تحذفها فمعناه أن العالم الإسلامي متحضر تلقائيا. وكان رد سيد قطب أن هذا ما كان يقصده فعلا لأن التحضر هو تحضر إنساني، والمجتمع الإسلامي مجتمع أقامه الله، والله خالق الإنسان وهو من سيرفع الحضارة ، الله عرف ما يجب وما يحتاجه الإنسان وكيف يكون متحضرا . ولهذا حذفت كلمة متحضر لأن أي مجتمع إسلامي حقيقي هو متحضر بالضرورة.
يتبع باقي المقال في عدد قادم لمجلة التدوين
رحمك الله أبي وأستاذي البخاري حمانة
البراجماتية في جامعة وهران
يوم 11 ديسمبر 2013، بمناسبة مرور 30 سنة على تأسيس قسم الفلسفة وجامعة وهران