19 Jul
19Jul


ماذا بقي من فرانز فانون؟

***  الجزء الثاني ***

الأستاذ بن شرقي بن مزيان جامعة وهران2


    ليس غرض هذه الورقة، كما قد يستشف من قراءة عنوانها للوهلة الأولى وضع جرد لما تم لحد الآن من دراسات حول فانون، وإن كان هذا مهم جدا، مثل هذا العمل له أصحابه الذين يجيدون من الناحية العلمية طرق العمل. بل الغرض من العنوان هو تحليل فانون فكرا في ظل ما كتبه هو بنفسه لأجل استبصار حاضر مؤلم نعيشه الآن ونحن نتطلع إلى المستقبل. ولذلك يبدو جليا أن غرض هذه الورقة هو بناء  حاضر قوى كما يقول نيتشه فيلسوف الإرادة.

وعليه أجدني مضطرا من الوهلة الأولى أن أضع أمامكم مسطرة للتصور الذي أريد صياغته حول فانون ونعني به ناحتين تتعلق:

الجزء الأول : الجانب الأنطولوجي وما يمثله مفهوم الإرادة                

الجزء الثاني: الجانب الاجتماعي         


 

ثانيا: من الناحية الإجتماعية: منطق العيش السوي  صيغ الإندماج للبشرة السوداء:

   تتعلق مسألة العيش معا le vivre ensemble  بالصيغة التي ينظر كل  طرف منها للطرف الآخر ، ولعل الفلسفة العربية الإسلامية كانت قد اشارت من خلال دلالة مفهوم المؤانسة (التوحيدي)، ومفهوم العمران البشري( ابن خلدون)، ومفهوم التعقل ( الفارابي)إلى هذه المسألة، والمسألة نفسها أثارها هيدغر وتبنت معظم أفكاره حنه أرندت H .Arendt .

 ويتحقق مفهوم العيش معا أو العيش السوى بضرورة الاعتماد على تصحيح النظرة التاريخية للذات وللآخر ولذا يشير فانون  إلى هذه المسألة حينما يقول ""المستعمر يصنع التاريخ ويعرف ما يصنع. ولأنه يعود دوما لتاريخ بلده الأصلي فإنه يشير بوضوح بأنه إمتداد لبلده الأصلي. التاريخ الذي يكتبه ليس تاريخ البلد الذي يقوم بسلبه، ولكن تاريخ أمته فيما تقوم به من قرصنة، وإنتهاك، وجوع. ولذا فإن الوضع الساكن الذي يجد المستعمر نفسه محفوفا به لا يمكنه أن يكون محل سؤال من قبله إلا إذا قرر المستعمر أن يضع حدا لتاريخ الاستعمار، لتاريخ الانتحال، ليقرر وجود تاريخ أمة، تاريخ مناهضة الإستعمار"" ( [1]) .

 

  تشكل الحقيقة التاريخية مركز العلاقات الممكنة لفكرة العيش السوي فهي تتعلق أولا بمسألة تصفية الذاكرة من قيم وشوائب علقت بها. إن الحقيقة هي المسار الذي يمكن أن تقوم حوله العلاقات بين الدول والعلاقات داخل الدولة الواحدة، ولذلك تتقاسم فكرة الحقيقة في إطار فلسفة العيش السوى أو العيش معا على المستوى الدولي فكرة تصفية الإستعمار ليس فقط في إطار الكفاح المسلح أو الكفاح المشروع فقط كما هو في حروب التحرير الوطنية وإنما على المستوى الداخلي في إطار فكرة المجتمعية أو التناغم الاجتماعي la socialité .

 


يحرص فانون على أن يبين موقفه من القضيتين حيث يقول   بأن"" مشكل الحقيقة يجب أن يشد إنتباهنا. في وسط  الشعب، وعلى مر كل الأزمنة الحقيقة لا تكون إلا للوطنين. لا حقيقة مطلقة ولا خطاب حول شفافية النفس يمكنه أن يدحض هذا الموقف. في مقابل أكذوبة الوضع الإستعماري، المستعمر يجيب بأكذوبة مماثلة . (....) الحقيقي،  هو من يكون السباق   لاقتلاع النظام الاستعماري  وهو ما يساعد  على إندماج الأمة. الحقيقي هو من يحمي الأهالي ويضيع الأجانب. في الإطار الاستعماري لا يوجد تصرف إزاء الحقيقة. والخير هو ببساطة ما يسبب لهم الشر."" ([2]) هذه الفكرة تطرح على مستوي ما أصبح يسمى اليوم بأبستمولوجيا التاريخ مطابقة الحدث التاريخي للحقيقة.

 

  لعل فطنة وذكاء فانون في أنه أثار المسألة بوضوح وصراحة تامة من حيث أن الحقيقة التاريخية هي بنت المنتصر،  ولذلك فإن الاشتغال على الحقيقة التاريخية يدعو اليوم الشعوب  التي خضعت للاستعمار بأن تعيد بنائها من حيث أنها حقيقة متعلقة بنا نحن الشعوب الذين أُستعمرنا. ولكن هذا الأمر لا يجب أن يكون بمثابة دعوة للانغلاق أولا، وثانيا كيف ومن يقوم بذلك.

 

إن مسألة بناء الذاكرة، والجزائر قد أقرت 8 ماي يوم وطنيا للذاكرة، أي تحقيق أكبر قدر من المطابقة بين التاريخ والحقيقة ليس بالأمر الهين أولا وثانيا أنه ضروري لأي شعب يريد أن يتقدم نحو الأمام، شعب يريد أن يشعر بأنه هو هو، وليس مقابلا للأخر ولنفسه، شعب يشعر بأنه فعال وليس منفعل.

 


  لبلوغ هذا الغرض يواصل فانون هذه المسألة حيث يذهب بها إلى ضرورة التعامل مع مكتسبات الدفاع الداخلي، والاستعمالات المختلفة للعنف في مواجهة الإستعمار، كطاقة بديلة لخطط التنمية الفعالة حيث يقول "" نلاحظ بأن العنف في مسارات محددة في زمن الكفاح  من أجل الحرية لا ينطفئ بصورة سحرية بعد الاحتفال بالألوان الوطنية.  ينطفئ بقدرة وسرعة التنمية والبناء الوطني المتواصل في إطار التنافس الحاسم للرأسمالية والاشتراكية."" ( [3]) .

 

  إن العنف، من حيث هو مقاومة للاستعمار، هو الطاقة التي عملت على توحيد الشعب المستعمر حيال مستعمره، ولذا فإن التحكم في تسير العنف وحسن استعماله يصبح مطلبا ضروريا حتى لا يعود مرة ثانية إلى الواجهة ولعل أول عمل يمكن القيام به للوقوف حيال الاستعمال السلبي للعنف هو وضع خطة تنموية لتأهيل الإنسان حيث يقول فانون ما نصه "" العالم الثالث لا ينتظر تنظيم حملة للجوع ضد كل أوروبا. ما ينتظره ممن سجنوه في العبودية منذ قرون أن يساعدوه على إعادة تأهيل الإنسان، أن يفوز الإنسان في كل مكان، ودوما. ولكن من الواضح أننا لاندفع بهذه السذاجة لدرجة الاعتقاد أن هذا يحصل بالتعاون وبالإرادة الحسنة للحكومات الأوروبية. " ([4])  

 

إن شروط العيش معا أو العيش السوي من الناحية الاجتماعية تتطلب في نظر فانون، وهو الدرس الذي يمكننا إستخلاصه مما تبقي من فكر فانون، أن تتعدي مستوى المؤانسة بالفهم الذي صاغه التوحيدي زمن المعاملات السلمية لمستوى ضرورة الإعتراف بالذات كذات مستقلة وبالآخر كمثيل لنا.


 

أ.د بن مزيان بن شرقي

 قسم الفلسفة- جامعة وهران 2. 


   



[1] Fanon Les Damnés de la terre, Violence P 53.

[2] Les Damnés, P 52   

[3] -Damnés P 73.

[4] -Damnés P 103.

   

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة