تكنولوجيات العصرنة والعلاقات الاسرية في ظل الحجر الصحي
الأستاذة مليكة بن شدة
قسم علم النفس والأرطوفونيا، كلية العلوم الاجتماعية
جامعة وهران2
تتعرض الاسرة الجزائرية على غرار باقي الاسر في العالم لتحديات كثيرة واخطار متنامية بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" الذي تفشى بيننا دون سابق انذار فغير اسلوب حياتنا وحصد الكثير من الارواح مما استدعى ايجاد حلول فورية وعاجلة للحد من تفشي هذه الجائحة المميتة، فكان الحجر الصحي بصيص الامل الوحيد الواجب اتباعه رغم كل التداعيات التي يتركها في نفسية المواطن مع ما يشهده المجتمع من تحولات متسارعة وتغييرات مادية و فكرية تتزامن مع اتساع نطاق الثورة التكنولوجية والاتصالية و المعلوماتية التي اتاحت مجالا واسعا لتغلغل تأثيرات الثقافات الاخرى على واقع المجتمع الجزائري و من ثم باتت الاسرة مطالبة بمواجهة التحديات الاجتماعية و الثقافية والاخلاقية و مما لا شك فيه ان ثمة عوامل كثيرة مستحدثة تشابكت في تأثيرها و احدثت تغييرات سلبية على نسيج الاسرة الجزائرية مما افقدها قدرا كبيرا من تماسكها ووحدتها وانعكس ذلك على ادائها لمسؤوليتها و ادوارها كأحد اهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية.
و ما يلفت الانتباه في العلاقات في الوقت الحاضر وخاصة في ظل الحجر الصحي بين الأفراد هو استعمال وسائل التكنولوجيا الحديثة بشكل مفرط في غياب وسائل الترفيه الاخرى كممارسة الرياضات المختلفة او قراءة الكتب او الرسم او العزف على الآلات الموسيقية، أو حفظ القرآن...الخ حتى أصبح الأفراد غالبا لا يتواصلون عن طريق الفم مباشرة، وإنما يستخدمون وسائل الاتصال الحديثة، مثل الانترنت، الهاتف النقال الذي أصبح عاهة تقريبا ، وذلك دون مراعاة أية عواقب صحية و لا نفسية اجتماعية على الفرد.
و بالرغم من أهمية هذه الوسائل في إيصال المعلومات إلى أبعد نقطة ممكنة في أقرب وقت ممكن لكن لا يمكن نسيان من جهة أخرى أن لهذه الوسائل التكنولوجية جانبا سلبيا يعود على العلاقات، سواء كانت في الأسرة أو في المجتمع، والسؤال المطروح: ما طبيعة الاتصال داخل الأسرة في ظل الحجر الصحي ؟ و هل الوسائل تعود دائما بالفائدة أم هناك عواقب جمة تعود على أفراد الأسرة ؟
التكنولوجيا وعلاقة الآباء بالأبناء:
يرى بعض العلماء أن الجيل الجديد محظوظ خاصة في وسائل الاتصال الحديثة فالتكنولوجيا أثرت في تفكير شبابنا فنراهم الآن على مدار الساعة يتواصلون مع بعضهم البعض ومع أهاليهم إن كانوا مسافرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك و سكايب وغيرها، ففي القدم كان التواصل يقتصر على رسائل البريد أو شريط كاسيت يرسل من دولة لأخرى لكي يطمئن المغترب على أهله وأصدقائه أما الآن فقل الاشتياق بينهم لكن من جانب آخر لا نستطيع انكار مساوئ تلك التكنولوجيا التي زادت عن حدها و شغلت كل تفكير الأبناء لتجعل حضورهم مع الأهل جسديا فقط بلا روح كما أصبح أبناء اليوم يعتمدون على الوالدين بشكل كبير لتوفير سبل الراحة والرفاهية لهم ، ما حد من رقابة الأهل على أبنائهم فسابقا كان هناك جهاز هاتف واحد بالبيت كله او تلفاز واحد مما يسهل على الأهل مراقبة أصدقاء أبنائهم او ما يشاهدونه من برامج على عكس هذه الأيام التي يمتلك فيها كل فرد جهاز أو اثنين لا يستطيع أحد الاقتراب منها ، ولذلك نقول أن التكنولوجيا الحديثة عملت على الحد من التواصل الاجتماعي والترابط الأسري حيث أصبحت العلاقات تتسم بالجمود وجعلت من الجيل الحاضر أكثر اتكالية على الغير.
ومن غير الممكن أن ننكر دور التكنولوجيا في تطوير معارف الأطفال و تعليمهم و توسيع مداركهم الا انه لا يمكن أن ننسى أيضا التأثير السلبي لهذه التكنولوجيا في اكتساب الأطفال فالفضائيات تقدم معلومات جاهزة و محددة في إطار معين و تؤكد العديد من البحوث و الدراسات و بالأخص التي تعدها اليونسكو على أن التلفزيونات العربية تستورد من الدول الأجنبية سلوكيات ضارة و أفكار بعيدة عن مجتمعنا كما هناك برامج التلفزيون الموجهة تلك فيها جرعات العنف و برزت معايير جديدة كالصراع بين الخير والشر و انتصار الخير و لكن هناك محطات فضائية تبث برامج مخصصة للأطفال تخفي في طياتها مضامين غير مناسبة لعقل الطفل مثل قصص الحب والعنف ...الخ التي تسهم في تدمير سلوكيات و أخلاقيات الطفل العربي و لا يمكن منع بث هذه الأفلام الكرتونية و لكن كآباء نستطيع منع أبنائنا من مشاهدة البرامج غير اللائقة ".
وعليه أصبحت المقولة القائلة: " إن الإنسان اجتماعي بطبعه" تتراجع و بدأت في الاضمحلال فلا بأس أن نقول اليوم أن الإنسان تكنولوجي بطبعه، إذ أصبح ينبهر و ينجذب لأحدث وأذكى وسائل التحاور وافتقارها إلى التغذية الراجعة و تبادل الأفكار و المشاريع، فأصبح الاتصال يقتصر على الجمل القصيرة بين أفراد الأسرة الواحدة التي تقتضيها الضرورة، فعوض أن يتحاور المراهق مع أمه أو أبيه على رغباته أو مشكلاته الدراسية و العاطفية، فإنه يفضل التوجه و الانخراط في عالم " الشات" CHAT لساعات عديدة و كأن البحث عن الحلول لمشاكله في العالم الافتراضي أفضل من البحث في العالم الواقعي.
إن امتلاك الطفل لوسائل التكنولوجيا بما فيها الشبكة العنكبوتية ( الانترنت) والتي يقضي فيها الطفل خاصة المراهق ساعات أمام جهاز الكمبيوتر، وبمرور الزمن يكون هذا المراهق مدمنا عليها، مما يعرضه للإدمان على هذه الشبكة، لأن هذه الأخيرة لا تمارس عليه سلطة تعسفية، أو بالعكس نجده يدخل في مواقع سهلة الممارسة، وهذا ما يجعله يترك الحياة الاجتماعية الطبيعية، ونتيجة قضاء ساعات طويلة أمام الشبكة العنكبوتية، فسنجد الطفل أو المراهق لا يختلط بالناس ولا يعاشرهم، وسيصبح منعزلا متعودا على الانعزال الاجتماعي على الرغم من أنه كان يحب العشرة و المعاشرة الاجتماعية قبل الإدمان.
وعند فقدان الطفل لحياته الاجتماعية الطبيعية، يتوجب عليه البحث عن حياة أخرى بديلة مما يجعله يصنع لنفسه عالما آخرا، وهو عالم افتراضي ، يوجد لنفسه أصدقاء افتراضيين من كل أرجاء العالم ويسعى إلى إيجاد ضالته في التواصل مع غيره في مواقع التواصل الاجتماعي، فيجلس المراهقين لأوقات غير محدودة أمام أجهزة التواصل و يستفيدون من تكنولوجيا التواصل و المعلومات وفي المقابل فإن هذه الساعات تعني العزلة الاجتماعية عن الأسرة، وتعني الخمول الجسماني، وتعني الضغط و التوتر النفسي فضلا عن التأثيرات السلبية عليهم نتيجة الدخول إلى المواقع غير البريئة و اللاأخلاقية.
كما يتأثر الأطفال و المراهقون و الشباب بأفلام و مسلسلات التلفاز، إلى درجة التقليد الأعمى لأبطال المسلسل الوهميين، وتقليدهم بارتكاب جرائم، وقد كان هذا التقليد وراء انزواء و بعد جيل الصغار والمراهقين عن جيل الكبار، في العادات و التقاليد و الأفكار، وعدم سيطرة الكبار على هذه الأحداث بسبب اغترابهم و انعزالهم عن محيطهم الاجتماعي، فقد أكدت الدراسات في علم الاجرام أن أغلب عمليات الإجرام التي يقوم بها فئة المراهقين هي جراء التقليد الأعمى للأفلام و المسلسلات التي يشاهدونها عبر التلفاز، فالمراهق في أغلب الأحيان يحاول أن يلعب دور البطل، فإذا به يقوم بعملية إجرامية، وكذا الفتاة التي تقع في غرام زميل لها في المدرسة فعبرها تحاول عيش قصة حب شاهدتها في أحد المسلسلات، وكم من عملية اختطاف و طلب فدية من أهل المخطوف، وفي النهاية يكون الجاني يصرح بأنه يحاول عيش قصة شاهدها عبر التلفاز أو الانترنت (داود، 1991: 3-8).
كما لجهاز التلفزيون دور في اصطناع شخصية الفرد الافتراضية و ذلك عن طريق تقليد ابطال الأفلام و المسلسلات واعتناق شخصيات الأبطال سواء في اللباس أو تسريحة الشعر أو حتى طريق الكلام أو التعامل مع الآخرين.
واحتكاك الفرد بعالم الانترنت خاصة مواقع التواصل الاجتماعي و محاولة إظهار المستخدم أنه حاضر بصورة دائمة في الأنترنت، مما يؤدي إلى اختلاق شخصية افتراضية غير شخصيته، وذلك بوضع اسم غير اسمه وصور غير صوره، وذلك من أجل التلاعب و الدخول في قصص حب مع الجنس الآخر أو عملية اختلاس، أو ممارسة أعمال غير شرعية عبر الانترنت بدون اكتشاف الآخر ذلك (العويضي، 2012: 23).
الخاتمة:
اننا ندرك فعلا خطورة وسائل التكنولوجيا على حياة و مستقبل أبناءنا سواء كانوا أطفالا أم مراهقين فهي تعمل على اتساع الفجوة بين الآباء و الأبناء و تقضي على كل أشكال الاتصال الأسري، فتختفي العلاقة القائمة على حرارة المشاعر و صدق الأحاسيس و تحل محلها تلك التي تتسم بالجمود
و النزاعات، وخاصة في ظل الحجر الصحي الذي وجد فيه ابناؤنا انفسهم لا يتقنون أي شيء اخر ذو فائدة كالرسم والعزف وقراءة الكتب الا الاعتماد على تلك السموم التي تفرزها مختلف الوسائل التكنولوجية ولعلنا نساهم في ذلك حينما نساعد و نشجع أبناءنا على الاستخدام و التحكم في وسائل التكنولوجيا، بل يعتبر ذلك مفخرة لنا إلى درجة أننا نهديه في عيد ميلاده أو حين حصوله على نتائج دراسية جيدة جهاز كمبيوتر أو هاتفا نقالا ...الخ من أنواع وسائل التكنولوجيا عوض كتابا أو قاموسا أو موسوعة علمية، تلك الوسائل وما تحويه من العاب عنف او صداقات زائفة او حوارات تافهة تدوم لساعات وساعات حتى يجدون انفسهم بعدها متعبون وغارقون في نوم عميق بعقول واجساد منهكة وعيون متعبة وشهية مفقودة وفي خضم كل هذا وذاك تتولد تلك الحرب النفسية التي يشنها الاباء ضدهم محاولين انقاذ ابنائهم من ذلك العالم الافتراضي الذي اصبح هاجسهم الوحيد الى حد الادمان.
و لكن و رغم ذلك فالحل ليس إبقاء أطفالنا و مراهقينا بعيدين عن إحدى مميزات العصر الحديث المتمثل في الانتشار المذهل لوسائل التكنولوجيا لأنهم سوف يوصفون بالغباء و الجهل ولكن يجب فقط
الإستخدام العقلاني لوسائل الاتصال، وعقد اجتماعات عائلية لمناقشة المشاكل التي اعترضتها أو حتى التي يمكن أن تعترضها في المستقبل، مع نشر ثقافة الحوار في نفوس الأبناء منذ الصغر و تعويدهم على الحوار مما ينعكس إيجابا على اتجاهاتهم و سلوكهم في تعاملهم مع الآخرين في المجتمع، وكذا بناء العلاقات الايجابية بين الوالدين و الأبناء، حيث يؤدي الحوار الفعال بينهما إلى الاحترام المتبادل و تعزيز الثقة لدى الابناء و تشجيعهم على التفكير السليم و التعبير و الشفافية و المصارحة التي تكشف عن المشكلات و تساعد في البحث عن الحلول المبكرة، عبر إزالة الحواجز و تنمية علاقة الصداقة بين الطرفين التي لا تكون إلا من خلال الحوار بينهما، مع إزالة الحواجز بين الآباء و الأبناء مما يساعد على الاستفادة من تجارب الحياة وتوجيهاتهم مثلما لا يفوت على الآباء فرصة تتبع أبناءهم و مساعدتهم تذليلا لما قد يعترضهم من صعاب بعرض تجارب الآخرين الذين تعرضوا للأذى عن طريق هذه الأجهزة التكنولوجية ووعظهم بغية عدم السقوط في مثل هذه التجارب المريرة.
وبهذا سيتم ترسيخ كل معاني الانسانية و طرق الحفاظ على حرارة العلاقات الاجتماعية و الأسرية، وتربيتهم على احترام الوقت وعدم مضيعته أمام أجهزة الكمبيوتر أو مع الهاتف النقال اللذان يعتبران فقط أداة لتسهيل الحياة و ليس للقضاء عليها أو السيطرة على أفكارهم و سلوكهم.
ولعل الحجر الصحي فرصتنا الوحيدة في تدارك كل هاته الاخطاء التي لطالما وقعنا فيها بقصد او غير قصد، محاولين بذلك لم الشتات الذي اصاب علاقاتنا الاسرية والاجتماعية بسبب الاستخدام المفرط لكل انواع الوسائل التكنولوجية الحديثة، واخيرا عفانا الله واياكم من هذه الجائحة المستجدة باقل الاضرار انشاء الله.
د.مليكة بن شدة