الحجر الصحي وإعادة اكتشاف البيت
أ. بن زينب شريف، أستاذ فلسفة جامعة المدية، الجزائر
باحث بجامعة وهران2، مخبر الأنساق، البنيات، النماذج والممارسات
يصف غاستون باشلار (1884-1962) Gaston Bachelard البيت قائلا: « البيت هو ركننا في العالم. إنه كما قيل كوننا الأول. كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى. وإذا طالعنا بألفة سيبدو أبأس بيت جميلا»[1]، فالبيت ليس مجرد شكل هندسي يشغل حيز جغرافي، بل أكثر من ذلك إنه كينونتنا الأولى، وعالمنا المصغر، فيه نكتشف ذواتنا من خلال الآخر ، وهو جسر للفضاء الأوسع، مما يتوجب علينا اكتشاف الفضاء الاوسع بعد اكتشافنا للفضاء الضيق " البيت"، مما يولد لدي الإنسان نوع من الجدلية، جدلية الداخل و الخارج أو الأضيق و الأرحب، المغلق والمفتوح[2]. يرى باشلار أن البيت ليس مجرد لبنات مرصوصة بعضها فوق بعض، هو جسد وروح، روح الذكريات والصور المتخيلة، إنه طفولتنا، خطواتنا الأولى، إنه كينونتنا، حيث « البيت جسد وروح، وهو عالم الإنسان الأول قبل أن يقذف بالإنسان في العالم كما يدعي بعض الفلاسفة الميتافيزيقيين المتسرعين فإنه يجد مكانه في مهد البيت، وأي ميتافيزيقا دقيقة لا تستطيع إهمال هذه الحقيقة البسيطة لأنها قيمة هامة، نعود إليها دائما في أحلام يقظتنا. الوجود أصبح الآن قيمة . الحياة تبدأ بداية جيدة تبدأ مسيجة، محمية دافئة في صدر البيت»[3]، باشلار بإصداره لكتاب " جماليات المكان" La Poitéque de L’éspace وإن كانت هناك مؤاخذات على الترجمة من الشاعرية إلى الجمالية، فالأحرى الشاعرية، فباشلار يقصد من خلال كتابه إبراز الصفات الحميمية للفضاء بصفة عامة الفضاء الذي يحتوي المكان والزمان. صفات حميمية تقابل الصفات العدوانية ، باشلار بانتقاله هذا، من الحقل العلمي الابستيمولوجي القائم على العقلانية إلى فضاءات الروح والشاعرية، الصفة المفقودة عند العقلاني خصوصا اتجاه المادة، المادة التي يتعامل معها كجمادات فقط، في حين نجد باشلار يشير إلى البعد الشاعري للفضاء بصفة عامة و غلى البيت بصفة خاصة. لهذا نجده يجعل من الفضاء البيتي أو الكينونة الأولى كفضاء أمومي للطفل، فضاء يعد مصدر أحلام اليقظة والأحلام الليلية و ذكريات الطفولية، فضاء تسكنه روح الشاعرية والحميمية فقط إن أحسنا الإنصات لها. فإذا كان الطفل يجد الدفء في الحيز المصغر الرحم الأمومي فكذلك سيجد الحميمية في الحضن البيتي، لهذا فإننا« حين نحلم بالبيت الذي ولدنا فيه، وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، في تلك المادة لفردوسنا المادي، هذا هو المناخ الذي يعيش الإنسان المحمي في داخله» [4]. لهذا يرى باشلار أن البيت هو الكينونة الأولى، من خلاله يستطيع الإنسان أن يجد الدفء والحميمية الأنطولوجية، فهو لم يكن مقذوفا به حتى يعيش الغربة والخوف التيه. فعندما يغلق باب بيته سيدخل في عالم الراحة والاسترخاء وأحلام اليقظة.
هذا البيت الذي يقدمه باشلار على أنه ذو كينونة أكثر منه مأوى، بيت يجذبنا إليه من خلال الذكريات والأحلام. البيت عالمنا الأول، بل بعدنا الأنطولوجي، فيه نرصص ذكرياتنا ، ونرسم أحلامنا. بكل بساطة هو امتداد لوجودنا، حيث نجعل من الأثاث والغرف والشرفات جزءا من كياننا لنرتبط بها ارتباطا حميميا.
نعم البيت هو مأوانا و مركز وجودنا وقبل البيت كان للإنسان الكهوف والمغارات يأوي إليها، ولكن هل حقا نعرف بيوتنا؟ و في ظل الانتشار المتسارع لجائحة كورونا أو ما يعرف علميا بـــــ فيروس ـCOVID 19 ، ومن باب الاحتراز تلجأ الحكومات العالمية إلى الحجر الصحي كحل للحد من انتشار الجائحة، في هذه الأيام، الجميع يتفنن في دعوتنا للبقاء في البيت، ليس خوفاً من حيوانات مفترسة، أو من تقلبات جوية خطيرة، بل الهروب من كائنات مجهرية كنا نعتقد إلى وقت قريب أننا أحكمنا السيطرة عليها . الجائحة استطاعت أن تعيد الجزائري إلى بيته ، إلى عالمه الأول.
معروف أنه غالبية المواطنين ينتهزون أي فرصة للخروج من البيت للركض في الشوارع مبتهجين بفوز فريقه المفضل أو الفوز بانتخابات أو حتى التظاهر من أجل التضامن مع الشعوب المضطهدة أو حتى البقاء إلى ساعات متأخرة من الليل ساهرا في مقهى أو على قارعة الطريق بحجة ضيق المكان أو الهروب من الروتين اليومي.
كم نقضي من وقت في البيت؟ هل نعرف بيوتنا حقا؟ هل نعرف الجدران و الأبواب والنوافذ و لون الستائر ؟ بل هل نعرف حتى أولادنا و المستويات التي يدرسون بها؟ ونحن الذين أرهقتنا رحلة البحث عن لقمة العيش، هل نمتلك تلك اللغة التواصلية مع ساكني البيت؟
يتحدث باشلار عن الشكل العمودي للبيت، الذي يمتد في الارض بجذوره وهو القبو الذي يعتبر بمثابة اللاشعور يختزن أسراره، والطابق الأرضي وهو بمثابة الشعور فيه يستعرض حياته اليومية، و إليه يأوي بعد يومه الشاق ،و العلية ومن خلالها يتطلع إلى العالم ليطل عليه من أعلى سابحا بخيالاته وبأحلامه، هذا هو البيت، أما وأصبحنا نعيش في شقق متراصة كالعلب تسد عن بعضها البعض حتى الشمس والهواء، شقق أصبحنا نعيش فيها على شكل أفقي فقط. فالعلية يسكن جارنا الذي قد يؤرقنا بضجيجه مثل ما نكون نحن لمن يسكن أسفل شقتنا مصدر إزعاج له أو نتعامل معه كالقبو الذي لا نطلع على أسراره ولا نقض مضجعه. نحن نعيش بشكل افقي فقط، حيث تكون شبه الشرفات منفذا على العالم الخارجي. وضع بالتأكيد لا نحسد عليه، هل نستطيع في ظل هذا الحجر أن نعيد اكتشاف بيوتنا أو شققنا؟ من خلال إعادة ترتيب وجودنا وكينونتنا التي كان الشارع مركزا لها. وضع يفرض علينا إعادة ترميم علاقاتنا مع ذواتنا ومع الآخر.
[1]- غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 1984، ص36.
[2]- جميل محمداوي، شعرية الفضاء عند غاستون باشلار، ب دار نشر، الطبعة 1، 2018 ص45.