16 Jun
16Jun


مفهوم الشعب


أ.د.الزاوي الحسين، جامعة وهران2

مخبر الأبعاد القيمية للتحولات الفكرية والسياسية في الجزائر


يخضع مفهوم الشعب لاستعمالات متعددة حتى لا نقول متسيبة، ففي السياقات السياسية المتعددة تعمل كل الأطراف المتصارعة على محاولة امتلاكه، فتقوم السلطة الحاكمة بالحديث باسم هذا الشعب وتقول إنها تعمل على خدمة  مصالحه والاستجابة لتطلعاته، وتدعي المعارضة أنها تدافع عن حقوقه وتناضل من أجل تحريره من كل أشكال القهر والاستبداد. وعندما يتكلم السياسي سواء من المعارضة أو من النظام، فإنه يستعمل في الغالب عبارات رنانة تهدف إلى تقريض الشعب، ويردّد في أحايين كثيرة "إن الشعب يريد"، "نحن الشعب"، "الشعب قرّر".. إلى غير ذلك من الصيغ اللفظية الهادفة إلى الحصول على قدر أكبر من التأييد.

نلاحظ أن هناك قلقا فكريا متزايدا في الشرق والغرب بشأن المضامين اللزجة للعبارات التي تتحدث عن "الشعب" وباسمه، وقد بدأ هذا الإشكال السياسي والمجتمعي يتطور مع انطلاق الثورة الفرنسية عندما قال قادة الثورة "إننا متواجدون هنا اعتماداً على إرادة الشعب"، وقالها السياسيون المعاصرون بكثير من الحذلقة والمراوغة: " الكلمة الآن للشعب"، ويذهب الفيلسوف الفرنسي آلان باديو إلى أن مثل هذه العبارات، تمثل في مجملها بلاغة غامضة وربما من المتعذّر قراءة معانيها ، ويضيف قائلا: أجل "الشعب" ليس لفظا فاشيا، ولكن ذلك لم يمنع النازية وأصحاب النزعة الشمولية وكل الطغاة من استعماله ومن السقوط في الشعبوية بسبب التباسه.

ويصل باديو إلى القول إنه في سياق الفعل ألاسترجاعي المتعلق بغياب الدولة يمكن "للشعب" أن يُسهم في تعيين سيرورة سياسية ويمكنه من ثم أن يصبح مقولة سياسية؛ وبمجرد ما يتم تأسيس وتقنين الدولة المنشودة، المنخرطة في "المجتمع الدولي"، لا يصبح الشعب الذي كان ينادي بتأسيسها، موضوعا سياسيا. وعليه فإن الحشود التي تمشي في الشارع لا تتحدث عن شعب وأمة قائمة فعليا ولكنها تتحدث عن أمة وشعب سيأتي؛ لأن مثل هذا الشعب ليس له وجود إلا في شكل مسار ديناميكي لحراك سياسي كبير، وبالنسبة للجموع ولكل أشكال الحراك الشعبي تعتبر الدولة القائمة التي تقول إنها تمثل الأمة، غير شرعية وعليها أن تختفي، وبهذا المعنى قد يكون الحراك مرادفا لإلغاء الدولة القائمة وينتقل بموجب ذلك القرار السياسي إلى يد شعب آخر متجمّع في الساحات.

تحلل جوديث باتلر من جهتها شعار "نحن الشعب" وتؤكد أنه لا يحدث أبدا أن يحضر كل من هم ممثلين من طرف "الشعب" من أجل أن يهتفوا بأنهم هم الشعب، بالشكل الذي يكون فيه "نحن الشعب" من الناحية الطبيعية جانب خارجي، وبحيث لا يمكن لمن يتحدث عن "نحن" أن يُمثل مجموع "الشعب"، مهما حاول أن يكون جامعا. إن "نحن" المعبّر عنها من طرف أولئك الذين يتجمّعون ويؤكدون أنهم "الشعب"، لا يمثلون من خلالها الشعب: إنهم يقدمون – كما تضيف باتلر- قاعدة من المشروعية لأولئك الذين يطمحون لتمثيل الشعب مستقبلا عبر الانتخابات.

لقد كان جول ميشلي أول مؤرخ يصدر سنة 1846 كتابا يحمل عنوان "الشعب" ، يثني فيه على خصال الشعب الفرنسي ويؤكد فيه على المساواة ما بين البشر ويحتفي بما أسماه "فرنسا الكبيرة البكماء" فرنسا العمال المُسيطرِ عليها من قبل "فرنسا صغيرة وصاخبة"، ولو قدر للسيد ميشلي أن يعايش لحظات عصرنا لتفطن إلى أن الأبكم صار أكثر ضجيجا وصخبا وصارت أصواته تغطي على أصوات كل النخب. ويشير جاك أطالي في السياق نفسه إلى أن كلمة "شعب" عادت إلى الواجهة مرة أخرى، ويدعونا إلى استعمالها بحذر لأنه وبحسب المعنى الذي نعطيه لها، يمكننا أن ندفع بالتاريخ نحو وجهتين متعارضتين، في المعنى الأول والدارج لدى رجال القانون والسياسة في مختلف الدول، يشير الشعب إلى مجموع المواطنين الذين يتشاركون في الأرض والثقافة واللغة، حيث تؤكد الدساتير على أن الحكومة يجب أن تكون "للشعب وبالشعب ولأجل الشعب".

أما في المعنى الثاني الذي يحيل إليه أطالي، تأخذ الكلمة دلالة مغايرة تماما للدلالة الأولى حيث يجمَع لفظ "الشعب" في كتلة غامضة، الفقراء والضعفاء وأولئك الذين يشعرون أنهم غير ممثلين، ويتم بذلك إقصاء الأغنياء والأقوياء والحاكمين؛ وبالتالي فإن الذين يستعملون كلمة "شعب" وفق الدلالة الثانية عادة ما تكون لديهم قناعة في خطاباتهم أن الأغنياء والأقوياء ليسوا جديرين بالانتماء إلى "الشعب" ولا يمكنهم التحدث باسمه لأنهم أقلية في مواجهة الأغلبية، وفي الحالات التي تنتصر الدلالة الثانية يكون مصير الأقلية النفي والتشريد وربما التصفية الجسدية.

يخلص جاك رونسيير من جهته إلى القول: "إن "الشعب" لا وجود له"، ما هو موجود هي وجوه متعددة بل ومتضادة من الشعب، وجوه تُبنى على أساس إعطاء الأفضلية لعض أنماط التجمع، لعض السمات المتمايزة، لعض القدرات أو انعدام القدرات، ويعني بذلك: الشعب العرقي المحدَّدِ بناءً على الانتماء إلى الأرض أو الدم؛ الشعب- القطيع المحروس من قبل الراعي الصالح أو المخلّص؛ الشعب الديمقراطي الذي يضع حيِّز التنفيذ كفاءة أولئك الذين لا يمتلكون أي كفاءة خاصة، الشعب الجاهل الذي تحرص الأوليغارشية على أن تبقيه بعيدا..إلخ . ويمكننا أن نستنتج عطفا على كل ما تقدم أننا مع "الشعب" في مواجهة كلمة تملك سمكاً لفظيا لافتا ولكنها تفتقر إلى قاعدة دلالية صلبة.                  


      

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة