تحولت الثقافة مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين إلى سلعة تخضع لقانون العرض والطلب، وإلى مورد هام للنشاط الاقتصادي، وإلى أكثر الوجهات استهلاكا. خاصة في ظل التطور التقني غير المسبوق في العالم الذي ساهم بشكل مباشر في تطور الحركات الثقافية في العالم، تقاطعت وشبكات العولمة الكثيفة القائمة على تدفقات الأنترنت والأسواق التجارية الكبرى. مما يشير إلى التحولات العميقة التي مست مفهوم الثقافة التي كانت في الأصل مرتبطة بالطبيعة، وتحولها الجذري الأول قام من الطبيعة والعناية النوعية التي خصّ بها الإنسان مزروعاته. واليوم وبفعل التحولات الراهنة صارت مرتبة بالإنسان وفرضياته بدلا عن الطبيعة.
الإنسان، هذه الكينونة المتغيرة والمتحولة والمشبعة بالانفعالات وأمزجة أحيانا تكون متعارضة، وهي سمات كلها صارت مادة حيوية للصناعة الثقافية الحاصلة، سواء في السينما أو الرياضة والفنون وبمختلف مجالاتها، وعبرها انتقلت مجتمعات كثيرة من الاعتماد على الموارد الباطنية إلى الاستثمار في الثقافة، وهي اليوم تحتكر منتوجاتها الثقافية كعلامة مسجلة بها.
في ظل كل هذه التحولات وللأسف بقت مجتمعات كثيرة حبيسة الاعتماد على الموارد الطبيعية والاقتصاد التقليدي الذي لم يساعها على تحررها والتخلص من تبايعتها، وفي بعض الأحيان تحول هذا النوع من الاقتصاد إلى محضنة خصبة للبيروقراطية والعجز والركود وغياب فرص الإبداع والإنتاج وقتل مفهوم العمل المنتج والحيوي، وتحولت ثرواتها إلى ريع عام كل الأنظار موجهة إليه، انعكس سلبا على استقرارها الاجتماعي والسياسي وقتل كل فرص تحسين حياة المواطنين. ومن بين تلك المجتمعات نجد المجتمعات العربية في طليعتها ومن بينها مجتمعنا. وعليه نتساءل، لماذا كانت الجزائر في كثير من المحطات التاريخية ملهمة في صناعة الثقافة الكونية؟ ولماذا بقت عاجزة عن تحويل هذا الإلهام وهذه المقدرة لصالحها ولنهضتها؟
ظلت الجزائر كجغرافيا محملة بكثافة أنثروبولوجية هائلة وبسرديات الفنتازيا المتنوعة، حاضرة بقوة في كثير من الأعمال الفنية العالمية منذ منتصف القرن العشرين إلى يومنا هذا، وملهمة للكثرين من عباقرة الرسم باختلاف جنسياتهم، ولعل أبرز أسباب هذا الاهتمام هو الخصوصية الاثنوغرافية التي يتمتع بها الجزائريون وخصوصياهم الثقافية التي تظهر في أساليب عيشهم ويومياتهم المثقلة بثقل الوجود ذاته. فالحياة لدى الجزائريين لها لغة مختلفة وفريدة يتقاطع فيها الفرد والجماعة، في بعض الأحيان يكون الفرد هو الكل وفي أحيان أخرى يختفي تماما أمام الجماعة والعشيرة، وهي سمة لم تقتصر فقط على الذكور بل حتى النساء، وهن بطلات لوحة الرسام العالمي بابلو بيكاسو(1881-1973( في لوحته: نساء الجزائر 1955، والتي فيها ظهرت مجموعة من النساء الجزائريات تتداخل أجسادهن فيما بينهن بشكل أسطوري مذهل، وقد أبدع فيها بيكاسو، والتي كانت ضمن أغلى الأعمال الفنية في تاريخ الفن. فالمرأة الجزائرية في هذه اللوحة نصف متبرجة يختفي جمالها وراء كثرة الخطوط التي ميزت اللوحة. ولم يقتصر هذا الإلهام على الرسام بيكاسو فحسب بل ظهرة بقوة في أعمال الرسام الفرنسي يوجين ديلاكروا Eugène Delacroix 1798-1863، حيث حضرت المرأة الجزائرية في كثير من أعماله ومنها نجد لوحة نساء مدينة الجزائر ولوحة نساء الجزائر في بيتهن، واهتمامه أيضا بالزقاق والعمران الجزائري العتيق، وفيها ظهرت المرأة الجزائرية ساطعة وجميلة وبألبسة ملونة داكنة، وهي سمة قوة الحياة والحب الذي كان يتدفق منها. إذ غالبا ما ارتبطت المرأة العاصمية في لوحاته بالشرفة والجلوس على الأرض وأرجلها ممدودة بعفوية تامة.
وهو الإعجاب نفسه وبشكل خاص أظهره الرسام ايتيان دينيه 1861-1929بالجزائر وسكانها وخصوصا بالقرى والمدن الصحراوية، واتخذ من مدينة بوسعادة قلعة لالهاماته الفنية وانتاجه ومعاشه، فقد أثرت فيه الحياة الصحرواية وأعجب بالإنسان الصحرواي لبساطة حياته التي اعتبرها دينية سرّ نجاته واستمراره. فقد رسم دينيه العائلة الصحراوية والعشوائية التي تكون عليها في صناعة يومياتها، ومن بين أعماله نجد: لوحة عيد الحب سنة 1895 ولوحة صبية يلعبون في بسعادة ولوحة شهيد الحب ولوحة متسابق المهاري ولعبو الكرة ولوحة وراء النافذة وغيرها من اللوحات الجميلة.
رأى إتيان دينييه في الصحراء عالما خاصا تسكنه الغرابة، وهي الغربة قد ظهرت في العديد من نقاط لوحاته، غرابة مستحيلة وغير مفهومة لغير ساكنها، وهنا تكمن أصالة الفرد الصحراوي التي أظهرها إتيان دينية في طريقة اللباس والوشم والأشياء البسيطة التي يعتمدها الصحراوي في حياته، وتكمن قيمتها الاستعمالية في أنها مرتبطة بالصحراء ذاتها وحاملة لعلاماتها.
إلهام الجزائر الفني لم يكن حكرا على الرسامين العالميين من ذوي الجنسيات المختلفة، بل أيضا ظهرت أثاره بوضوح في أعمال بعض الرسامين المحليين الذي لا يقلون مكانة عن الأسماء الكبيرة التي تم الإشارة إليها سابقا، ونقصد بوضوح الرسامة العالمية باية محي الدين (1931-1998) ابنة برج الكيفان بالعاصمة، وهي عميدة الفنانين التشكيليين الجزائريين، وقد برعت في رفع التشكيل المستوحى من خصوصية الثقافة الجزائرية رفعا متينا باستخدام الألوان والخطوط المنكسرة، وفيها تداخلت كائنات مختلفة في صورة واحدة، تارة نجدها امرأة وأوراق وطيور طاووس، وتارة ظهرت في منحنيات البنايات والشرفات العتيقية، وهي عبقرية جعلت من بيكاسو يقف عند تجربة باية بإعجاب كبير، أثمرت عملا مشتركا لهما في ورشة مادورا بفالوريس على ضفاف الجنوب المتوسطي، وهي أعمال لا تزال موجودة بمتاحف فرنسا.
ليس بعيدا عن العاصمة ولدت قامة فنية أخرى كبيرة وبالتحديد بمدينة أزفون/ تيزي وزو، ظهرت في شخص محمد اسياخم(1928/1985) وهو رسام تشكيلي ومصمم غرافيك، له العديد من الأعمال المتميزة، وهي كلها أعمال مرتبطة بالظاهرة الجزائرية، ركزت على السمات والعلامات الظاهرة في الوجوه، ومعه صار الوجه لوحة وجغرافيا، ولكل وجه تضاريسه ومناخه ولونه، وهي عبقرية خاصة من عبقريات اسياخم.
تعددت الجزائر في الأعمال الفنية وصارت جزائريات، وهي فيها لم تعد كيانا سياسيا كلاسيكيا متعبا بالمشاكل الإدارية وغارقة في يوميات متشابهة، بل فضاءا مفتوحا في مقابل السماء، ليس له حدود.
فضاء يملك أرشيفا ضخما بعضه مدرجا في الذاكرة والتراث والباقي منبسط تحت الضوء، مختبأ تحت الألوان، لها قدرة على الإيحاء وتداعي الأفكار، حيث أن شعراء الملحون لم يجدو صعوبة على فهم هذه الشساعة بقدر ما نجدها نحن الفلاسفة اليوم.
ظلت الجزائر موردا كبيرا لصناعة الفكرة والجمال، وصناعة اللحن والكلمة، وهم كثر الذين تواصلوا مع هذه الصناعة وكان لهم إنشاد جميل، بات من الضروري اليوم أن لا ننكر صناعتهم. فاليوم هو الوقت المناسب لإعادة مراجعة أعمالهم وأن نتدرب وبشكل مكثف على انشاء جسور الحنين معهم، فما قاموا به لم يكن مجانا أو هبة، وإنما جزائريتهم تكلمت عبر إبداعاتهم واتخذتهم رسلا لها.