22 Jul
22Jul


الضحك ودلالاته التواصلية


أ.د. العربي ميلود، جامعة مستغانم

مخبر الأنساق، البنيات، النماذج والممارسات، جامعة وهران2


من الواضح أن الضحك ظاهرة اجتماعية، وتعد من أعمق التعبيرات لفعل الغيرية. فالإنسان لا يستطبع أن يضحك إلا في وجود غيره من الناس. لذا نجد برغسون يميز بين التراجيديا كونها تحمل طابعا شخصيا. وبين الكوميديا ذات الطابع الاجتماعي العام. ويقول نتشه كذلك: " إنني لا أعرف تماما لماذا الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يضحك؟ فلما كان هو أعمق الكائنات شعورا بالألم، كان له أن يخترع الضحك. فالتعيس هو الذي يضحك لكي يغير بتعاسته فرحا. لذا ليس من المستغرب أن تنبع أجمل فكاهة من أعمق الناس حزنا".

يعتبر فرويد الضحك من أرقى الانجازات النفسية للانسان وتصدر عن آلية دفاعية في مواجهة ما يهدد الذات. وتقوم هذه الآلية الدفاعية بتحويل حالة الضيق إلى حالة المتعة".

وعليه فالضحك يحقق نوعا من التواصل اللغوي والاجتماعي. فالمرء لا يضحك وحيدا. بل لا بد من مرسل . ومستقبل وطريقة إرسال. ورسالة يتم التلاقي حول الإحساس بها. وشيوع الثقافة الجادة، وفي لبها لغة ثرية متداولة، تساعد على الارتفاع بمستوى الفكاهة الراقية التي لا تخلو من عنصري الذكاء والمعرفة.

يقول نتشه في هكذا تكلم زرادشت : لقد أتيت لكم بشرعة الضحك، فيا أيها الانسان الأعلى: تعلم كيف تضحك".

الضحك هو في حد ذاته شعور ينبعث من أساس متناقض باعتبار أنه ترجمة لشعور بالفرح والغبطة كما هو في الآن ذاته ترجمة لشعور بالألم والحزن .

وعليه نتساءل ما الضحك؟ ما دلالاته ؟ ولماذا نضحك هل بسبب وجود الشيء المضحك؟ أم لأننا فهمنا المضحك وتمكنا من ترجمته بلغتنا الشعورية فضحكنا لكي نبرز أننا فهمنا؟.

  يحكى أنه في زمن الخليفة الرشيد، ادعى شخص النبوة، فطلب الخليفة إحضاره، وسأله ما شأنك أيها الرجل، فرد الرجل بكل ثقة أنا نبي كريم، ثم عاد الخليفة وسأله: ما حجتك في ذلك، وإن كنت فعلا نبي فاجعل لحيةً في وجه هؤلاء الفتية المرّد. فرد الرجل قائلا: ولماذا أغيّر في هذا الوجه الحسن، فلتحضر لي موسا لأجعل من أصحاب اللّحى هؤلاء مرداً. فضحك الخليفة لجوابه، وأمر بصرفه والعفو عنه.

نستحضر هذه القصة التاريخية لنتساءل حول هذه المفارقة التي تجعل من حدث جلل كادعاء النبوة من المفروض أن تستنفر لأجله دار الخلافة كلها، يتحوّل إلى شيء مضحك، فهل المضحك هو الحدث أم الفعل الغريب الصادر عن هذا الشخص؟ وهل عفا الخليفة عن هذا الشخص، لأن الأمر هين أم لأنه مضحك؟ لربما هذا ما يدفع للبحث في معنى الضحك نفسه ودلالاته السوسيو-فلسفية. فالضحك سمة بشرية مشتركة ولطالما عُرف الإنسان على أنه حيوان يَضحك ويُضحك، فلا مضحك إلا فيما كان إنساني، حتى وإن كان المضحك غير مرتبط بالإنسان، فالضحك سيتولد حينئذ من تطابق الوضع المضحك مع وضع أو تعبير إنساني معين. وعليه كان من شأن الضحك أن يفتق الغطاء الرومانسي الذي طالما غلّفت به الموسيقى العاطفية الوضع الإنساني، وجعلت العقول المحضة تختفي خلفها، ولا تتفاعل مع الوسط الاجتماعي الذي يؤدي إلى الضحك في حالة الإندماج فيه، لأن الضحك ينشأ في مجتمع لا يؤدي وظيفته ويحاول العقل المحض أن يحركه، أو كما يقول هنري برغسون (فيلسوف فرنسي صاحب كتاب الضحك): ''إن مجتمعا مؤلفا من عقول محضة قد لا يبكي قط، ولكنه يظل يضحك''. فالعقول المحضة غالبا ما تفقد إرادة الفعل لتجعل من بعضها ذاتا ضاحكة ومن البعض الآخر شيء مضحك، فلو سقط أمامك شخص كان يجري في الشارع لأضحكك الوضع، لكن لا تجرؤ أن تسأل نفسك: ما المضحك في هذا؟ هل كان الوضع سيكون مضحكا لو أن هذا الشخص جلس في الأرض بمحض إرادته، أم أن تغير وضع الجسم خارج إرادة صاحبه هو المدعاة للضحك. وقد نضحك كذلك -كما يقول برغسون- من خطيب يعطس في اللحظة التي يبلغ فيها الخطاب أقصى حماسته! إنه بلا شك الذهول لأنه الأكثر إثارة للضحك وأكثر المنابع الطبيعية المولّدة له، فالشخص المصاب بالذهول يتفاعل مع أفكار من نسج خياله، وعليه سيتحول المضحك في حد ذاته إلى شخصية خيالية عالقة بالوهم، لأن المضحك العميق سيتزاوج مع المضحك السطحي من خلال وضع الذهول، وأقرب مثال عن ذلك التنكيت الاجتماعي، فعلى سبيل المثال شهد مجتمعنا أزمة عاصفة سميت بالعشرية الحمراء أو سنوات الدم، وبقدر ما كان الوضع مأساويا ومؤلما، إلا أن المجتمع استطاع أن يقولب هذه المأساة الإجتماعية في شكل هزلي تمثل في النكت، التي لم تُطرح كدراما اجتماعية بل كملهاة، والفرق بينهما أن الدراما ترتبط بأسماء العالم (المغامر، البخيل، الغريب، العنيف...) في حين أن الملهاة تتحد بالأشخاص إتحادا وثيقا وتستحضر الشخصيات الفاعلة في الحدث لتلبسها هنداما أراغوزيا تجعل من الجسم مجرد آلة قابلة لأن تفك لتضفي على الجسم إشارات وحركات مضحكة، فتَصلب الجسم هو أقوى أسباب الضحك، لأن الجسم من المفترض أن يكون حيا متفاعلا مع الجانب الروحي للإنسان، وعليه يمكن لهذه الحياة إذا انتسبت لمبدأ الجسم الآلي أن تتحوّل إلى مسرحية كبرى كل ما فيها مضحك حتى أقصى درجات الهم تتحول إلى مجرد كوميك (comique). وبناء على ذلك تصبح مقولة ''كثرة الهم تضحك'' التي يحملها مخيالنا التراثي أبلغ تعبير عما تحمله ظاهرة الضحك من تناقض طبيعي، قد تمتد وتشتد بفعل الذهول من الحياة كما من الموت، فنحن نضحك لدرجة معينة حين نصاب بالذهول لأمر إنساني ما، غير أن الأمر سيزداد إضحاكا إذا اشتدت لحظة الذهول وبدأت تمتد أكثر وتأخذ صدى اجتماعي أكبر، مثال ذلك نعلم أن التنكر أمر مضحك يستمد قوة الإضحاك بنوع من الإنابة المطرودة، كمباغتة الشيء بعد انقطاع، فهو يحمل صفة الإطراد وبالتالي يعد فعل تنكري يؤدي إلى الضحك. ومع أن التنكر فعل إنساني محض، لكن قد يمده الذهول إلى أبعد من الإنسان، فيتحوّل تنكر الطبيعة والمجتمع مدعاة للضحك كذلك، فالقبح أو تشوه الجسم لا يدعو مبدئيا للضحك، لكن يصبح كذلك عند تَصنع الشخص السليم له، ولهذا كان الفن الكاريكاتوري أكثر تعبيرا عن الضحك من خلال إبراز العوج الظاهر في الطبيعة، الذي لا يمكن أن تدركه جميع العقول لأنه يختفي خلف الانسجام والتوازن اللذان يطبعانها، فيأتي الفن الكاريكاتوري ليحاول أن يدرك مكامن الخلل والاعوجاج وجعلها مرئية لكل الناس عن طريق التضخيم، فهو يشوه النماذج كما كان يمكن أن تتشوه من تلقاء نفسها لو بلغ العوج أقصاه، وبرغم ما يدعّى على هذا الفن بأنه فن مبالغة وتزييف لصور الإنسان الطبيعية، غير أنه يجدر الإشارة إلى أن المضحك في الرسم الكاريكاتوري ليس الشكل بل تصلب المادة وقوة الخيال في إدراك ما وراء انسجام الصور الظاهرية طبيعيا مع صقلها بأبعاد اجتماعية واقعية. ليتحول فعل الضحك إلى فعل اجتماعي يحتاج إلى نوع من الصدى ومساحات للانتشار والتوسع، يمكن أن يساعد في ذلك وجود ضاحكين حقيقيين وضاحكين متخيلين، فالذات غير الضاحكة لا مبرر لها إلا أنها ليست اجتماعية ولا علاقة لذلك بالفعل الخلقي، فللضحك أثر ودلالة اجتماعية تبدأ من التصلب ضد الحياة الاجتماعية، فهو وليد جهاز طبيعي فينا لكن تحركه إحدى العادات الاجتماعية الطويلة، إذ أن الجانب المضحك في الشخص هو الجانب المحتجب عن وعي هذا الشخص وعليه كانت الملهاة وسط بين الفن والحياة الإجتماعية. وكان الضحك المصحح لبعض من النقائص الاجتماعية والنفسية على حد سواء التي لا يكاد يخلو منها أي جزء من تركيبتنا الطبيعية، فهو يخلص الإنسان من الرتابة التي تنغص عليه حياته المفروضة عليه عن طريق القوانين التي تحكمه، ويسعى لتصحيح صورة الآلي وقد حلت محل الطبيعي، وتصحيح الانعزال بالاجتماع، وتصحيح الثبات بالتغير، لأن الآلية المفرطة التي يتسم بها مجتمعنا المعاصر باتت نموذجا مضحكا، أو كما حدث -كما يذكر ذلك برغسون- أنه منذ عدد من السنين غرقت سفينة قرب دييب واستطاع بعض الركاب أن ينجو بزورق بعد عناء كبير، وكان قد هب إلى نجدتهم موظفو الجمرك، فما لبثوا أن سألوهم: ''هل معكم ما تصرحون به عن هويتكم؟''. فما يثير الضحك في كل هذا هو الميكانيكا والتصلب مرفقة بالكلمة والحركة الموظفة لأن لها دور كبير في فعل الإضحاك.

وبناء على كل ما سبق، يمكن أن نعد الضحك على أنه أعقد ظاهرة نفسية إنسانية، لما يحمله من تناقضات عدة، فهو يسبح في فلك انعدام الإحساس فلكي نضحك يجب أن نكون غير مبالين، لذا ستكون العاطفة أكبر عائق يمكن أن يواجهه الضحك، فلطالما تغلب الإنسان على أحزانه أو حوّلها إلى أفراح بلا مبالاته فقط. كما ينبعث الضحك كذلك من اللاانسجام سواء في الشخص أو في الطبيعة والمجتمع.

فكيف لظاهرة تُعدم العاطفة وتتآمر مع اللاانسجام أن تحظى فلسفيا واجتماعيا بنفس الإهتمام الذي نكنه للحياة نفسها؟ إن الجواب عن هذا التساؤل يتمثل بكل بساطة من خلال التعريف الفرويدي للضحك على أنه ظاهرة اقتصادية، تحاول النفس من خلاله أن تعبئ كمية من الطاقة النفسية اللازمة لاستقبال ما هو آت.

هل كان لنا إن نضحك لو أننا كنا نعيش فرادي؟،

من اللافت أن الضحك يتضاعف بالجماعة ويكثر، فالإنسان نادرا ما يضحك إلا في وجود غيره من الناس، فهو يمثل “ظاهرة اجتماعية”. لذا نري “برجسون” يميز بين فن التراجيديا كونها تحمل طابعا شخصياً، وبين الكوميديا ذات الطابع الاجتماعي العام. فمن شواهد ذلك أن من يلقون النكات على المستمعين يضحكون أكثر منهم، ربما لكي يجعلوهم يضحكون بالعدوى. والمرء قد يضحك على النكتة بمجرد إلقائها لأنه مهيأ، ومُنبه اجتماعيا لذلك، حني قبل أن يستوعبها. كما أننا قد نضحك على النكات السخيفة والنكات القديمة التي سمعناها كثيرًا من قبل، إذ يبدو أن الضحك يحتاج دائما إلى أن يكون له صدى وأن يجد له تجاوبا مع الآخريأ.د.العربي ميلودن.

يقول “هنري برجسون” إن المرء لا يستسيغ أصلاً الضحك حين يستبد به الشعور بالوحدة. فضحكنا دائما هو ضحك جماعة وليس ضحك أفراد. لذا فهو يزيل الحدود، ويقوي الروابط ويجعل الإنسان ينظر للحياة بمودة، وللجنس البشري بمحبة. كما يشي “إيزنك” إلي إن الضحك نوع سام من أنواع التكيف (السامي)، وإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن يحقق التحمل والتسامح.

ويحتاج الوجدان الشعبي/ الجمعي الذي يتوارثه الأحفاد إلى ما يذكيه، ويحافظ عليه متقدًا من جيل إلى جيل، والفكاهة المتوارثة من أكثر الأشياء التي حافظت على تلك الروح الجماعية للمجتمعات. فدلالة الضحك الاجتماعية، وربطها بالمناخ الاجتماعي، أو الطقس الحضاري، تقوّي الروابط الاجتماعية، وتزيل الحقد والشحناء، وتحد من “ثقافة العنف والعدوان”.

من اللافت أننا نعيش اليوم في عالم يغلبه السواد، حروب، دمار، كارثة، أوبئة قاتلة مثل كورونا التي باتت تحيط بنا من كل جانب  وتنغص علينا حياتنا. وأمور أخرى تبعث فينا اليأس والتذمر. فما الحل إذن؟ . إنه الضحك الشيء الوحيد القادر على أن يمنح لحياتنا صبغة مختلفة ويخرجنا من قوقعة المشاكل الإنسانية التي نعايشها يوميا. بالحق يجب أن نكون نتشويين ضاحكين مثل ديونيسوس. إنه ملاذنا الأخير.


أ.د.العربي ميلود

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة