هكذا كان يزور عميد الأدب العربي طه حسين ويضيف مع أبي العلاء في سجنه كما أنه يلقب رهين المحبسين العماء والعزلة. شاعر متميز له فلسفته في الحياة ربما يذكرنا بالكثير من المفكرين ولكن لست أدري لماذا كلما عدت للمعري تذكرت شوبنهاور ونيتشه دوما أبحث عن هذا الخيط الرابط بينهما والمعري، ربما للعزلة، للرفض أو للرغبة والإرادة. لا أملك جوابا شافيا، ولكني مؤمن بالفكرة وسأظل أبحث عنها. نحفظ ما هو مؤثر على أبي العلاء "" هذا ما جانه على أبي وما جنيت على أحد"، فلسفة تيهان L’errance ، موقف من الوجود وتصور له مختلف عن المألوف، تجاوز مفارق للعادة، حزن مختلف لا تجد فيه رثاء بل روح منبعثة من الذات نفسها لأنها تؤمن بالعزلة والتوحد. إخترت هذه القصيدة التي ما زلت أحفظها عن ظهر قلب بالرغم من أني لم أكن يوما أبتغي حفظها ولكنها مع ذلك رسخت في ذهني:
غير مجدي في ملتي وإعتقادي نوح باك ولا ترنم شاد
لو كنت يوما ما موسيقي لبقيت طيلة حياتي أختار لحنا تلو الآخر لهذه القصيدة أليست سنفومنية 5 لبوتهفان المصير. هو هكذا الإنسان في صراع مع مصيره. لا أجازف ولكنه الإحساس الذي ينبعث من داخلي ولا أستطيع أن أعبر عنه ربما لأول مرة لم أكن وفيا لإحساسي لأنني لا أملك ناصية الموسيقي وإلا عبرت كما لو كان يجب أن أعبر عن إحساسي، وأعرف أن العمر لا يسمح بتعلم الموسيقي ولكن مع ذلك أؤمن بأن هذه القصيدة هو فريدة في شعرنا العربي، إنه الإيمان الشخصي ولذلك أعتذر لمن لا يوافقني الرأي.
غير مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ
وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِيسَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنَت عَلى فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ
صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْبَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ
خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الأرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ
وقَبيحٌ بنَا وإنْ قَدُمَ العَهْدُ هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ
سِرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيداًلا اخْتِيالاً عَلى رُفَاتِ العِبادِ
رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مراراً ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ
وَدَفِينٍ عَلى بَقايا دَفِينٍ في طَويلِ الأزْمانِ وَالآباءِ
فاسْألِ الفَرْقَدَينِ عَمّنْ أحَسّا مِنْ قَبيلٍ وآنسا من بلادِ
كَمْ أقامَا على زَوالِ نَهارٍ وَأنارا لِمُدْلِجٍ في سَوَادِ
تَعَبُ كُلّها الحَياةُ فَما أعْجَبُ إلاّ مِنْ راغبٍ في ازْديادِ
إنّ حُزْناً في ساعةِ المَوْتِ أضْعَافُ سُرُورٍ في ساعَةِ الميلادِ
خُلِقَ النّاسُ للبَقَاءِ فضَلّتْ أُمّةٌ يَحْسَبُونَهُمْ للنّفادِ
إنّما يُنْقَلُونَ مِنْ دارِ أعْمالٍ إلى دارِ شِقْوَةٍ أو رَشَادِ
ضَجْعَةُ المَوْتِ رَقْدَةٌ يُستريحُ الجِسْمُ فيها والعَيشُ مِثلُ السّهادِ
أبَناتِ الهَديلِ أسْعِدْنَ أوْ عِدْنَ قَليلَ العَزاءِ بالإسْعَادِ
إيه للّهِ دَرّكُنّ فأنْتُنّ اللْلَوَاتي تُحْسِنّ حِفْظَ الوِدادِ
***************
وخَطيباً لو قامَ بَينَ وُحُوشٍ عَلّمَ الضّارِياتِ بِرَّ النِّقَادِ
رَاوِياً للحَديثِ لم يُحْوِجِ المَعْرُوفَ مِنْ صِدْقِهِ إلى الأسْنادِ
أَنْفَقَ العُمرَ ناسِكاً يَطْلُبُ العِلْمَ بكَشْفٍ عَن أصْلِهِ وانْتِقادِ
مُستَقي الكَفّ مِنْ قَليبِ زُجاجٍ بِغُرُوبِ اليَرَاعِ ماءَ مِدادِ
****************
يا جَديراً منّي بحُسْنِ افتِقادِ
قد أقَرّ الطّبيبُ عَنْكَ بِعَجْزٍ
وتَقَضّى تَرَدّدُ العُوّادِ
وَانْتَهَى اليأسُ مِنكَ وَاستشعَرَ الوَجْ
دُ بأنْ لا مَعادَ حتى المعادِ
****************
لا يُغَيّرْكُمُ الصّعيدُ وكونوا
فيهِ مثلَ السّيوفِ في الأغمادِ
فَعَزيزٌ عَليّ خَلْطُ اللّيالي
رِمَّ أقدامِكُمْ بِرِمّ الهَوَادي
*****************
وإذا البَحْرُ غاضَ عنّي ولم أرْ
وَ فلا رِيّ بادّخارِ الثِّمادِ
كُلُّ بَيْتٍ للْهَدْمِ ما تَبْتَني الوَرْ
قاءُ والسّيّدُ الرّفيعُ العِمادِ
والفَتَى ظاعِنٌ ويَكفيهِ ظِلُّ السْ
سَدْرِ ضَرْبَ الأطْنابِ والأوْتادِ
بانَ أمْرُ الإلَهِ واختَلَفَ النّا
سُ فَداعٍ إلى ضَلالٍ وَهَادِ
والّذي حارَتِ البَرِيّةُ فِيهِ
حَيَوَانٌ مُسْتَحْدَثٌ مِن جَمادِ
واللّبيبُ اللّبيبُ مَنْ لَيسَ يَغْترْ
رُ بِكُوْنٍ مَصيرُهُ للفَسادِ
(منقول)
شكرا لكم وإلى اللقاء في الحلقة القادمة والأخيرة والتي سأخص بها محمود دروش
بن شرقي بن مزيان