حديث السبت الحلقة الثالثة: الخنساء
الأستاذ بن مزيان بن شرقي
جامعة وهران2 محمد بن احمد
أعود في هذه الحلقة لشاعرة عربية عاشت الفترتين الجاهلية والإسلام، شاعرة سجلت إسمها بذهب داخل الخطاب الشعري، لأنها المرأة العربية الوحيدة التي كان لها شرف أن تكون شاعرة أيام كان لقب الشاعر (شعراء الجاهيلة)، لا يوزع كما هو حاصل عندنا اليوم ضف إلى ذلك أنها بقيت وفية لغرضها الشعري، وهو ميزة قلما نعثر عليها عند الشعراء ما عدا البعض كما هو الحال مثلا مع المعري دون أن ننسي أنها وبالرغم من كل هذا بقيت حزينة طيلة حياتها حيث لا يمكن أن يذكر الرثاء إلا وذكرت الخنساء إنها شاعرة الرثاء المتفرد كما يقول أحد ممن كتب حولها. لقد أخترت مقتطفات من بعض قصائدها، وإن كان المشهور عندنا قصيدتها التي قالتها في رثاء صخر. ومعذرة للأصدقاء على الإطالة.
عيني جودا ولا تجمدا
أَعَينَيَّ جودا وَلا تَجمُدا
ألا تَبكِيانِ لِصَخرِ النَدى
أَلا تَبكِيانِ الجَريءَ الجَميلَ
أَلا تَبكِيانِ الفَتى السَيِّدا
طَويلَ النِجادِ رَفيعَ العِمادِ
سادَ عَشيرَتَهُ أَمرَدا
إِذا القَومُ مَدّوا بِأَيديهِمِ
إِلى المَجدِ مَدَّ إِلَيهِ يَدا
فَنالَ الَّذي فَوقَ أَيديهِمِ
مِنَ المَجدِ ثُمَّ مَضى مُصعِدا
يُكَلِّفُهُ القَومُ ما عالُهُم
وَإِن كانَ أَصغَرَهُم مَولِدا
تَرى المَجدَ يَهوي إِلى بَيتِهِ
يَرى أَفضَلَ الكَسبِ أَن يُحمَدا
وَإِن ذُكِرَ المَجدُ أَلفَيتَهُ
تَأَزَّرَ بِالمَجدِ ثُمَّ اِرتَدى
ألا لا أرى في الناس مثل معاويه
أَلا لا أَرى في الناسِ مِثلَ مُعاوِيَه
إِذا طَرَقَت إِحدى اللَيالي بِداهِيَه
بِداهِيَةٍ يَصغى الكِلابُ حَسيسَها
وَتَخرُجُ مِن سِرِّ النَجِيِّ عَلانِيَه
أَلا لا أَرى كَالفارِسِ الوَردِ فارِساً
إِذا ما عَلَتهُ جُرأَةٌ وَعَلانِيَه
وَكانَ لِزازَ الحَربِ عِندَ شُبوبِها
إِذا شَمَّرَت عَن ساقِها وَهيَ ذاكِيَه
وقَوّادَ خَيلٍ نَحوَ أُخرى كَأَنَّها
سَعالٍ وَعِقبانٌ عَلَيها زَبانِيَه
بَلَينا وَما تَبلى تِعارٌ وَما تُرى
عَلى حَدَثِ الأَيّامِ إِلّا كَما هِيَه
فَأَقسَمتُ لا يَنفَكُّ دَمعي وَعَولَتي
عَلَيكَ بِحُزنٍ ما دَعا اللَهَ داعِيَه
يُؤرِّقني التذكُّر حينَ أمسي
يُؤَرِّقُني التَذَكُّرُ حينَ أُمسي
فَأُصبِحُ قَد بُليتُ بِفَرطِ نُكسِ
عَلى صَخرٍ وَأَيُّ فَتىً كَصَخرٍ
لِيَومِ كَريهَةٍ وَطِعانِ حِلسِ
وَلِلخَصمِ الأَلَدُّ إِذا تَعَدّى
لِيَأخُذَ حَقَّ مَظلومٍ بِقِنسِ
فَلَم أَرَ مِثلَهُ رُزءً لِجِنٍّ
وَلَم أَرَ مِثلَهُ رُزءً لِإِنسِ
أَشَدَّ عَلى صُروفِ الدَهرِ أَيداً
وَأَفصَلَ في الخُطوبِ بِغَيرِ لَبسِ
وَضَيفٍ طارِقٍ أَو مُستَجيرٍ
يُرَوَّعُ قَلبُهُ مِن كُلِّ جَرسِ
فَأَكرَمَهُ وَآمَنَهُ فَأَمسى
خَلِيّاً بالُهُ مِن كُلِّ بُؤسِ
يُذَكِّرُني طُلوعُ الشَمسِ صَخراً
وَأَذكُرُهُ لِكُلِّ غُروبِ شَمسِ
وَلَولا كَثرَةُ الباكينَ حَولي
عَلى إِخوانِهِم لَقَتَلتُ نَفسي
وَلَكِن لا أَزالُ أَرى عَجولاً
وَباكِيَةً تَنوحُ لِيَومِ نَحسِ
أَراها والِهاً تَبكي أَخاها
عَشِيَّةَ رُزئِهِ أَو غِبَّ أَمسِ
وَما يَبكونَ مِثلَ أَخي وَلَكِن
أُعَزّي النَفسَ عَنهُ بِالتَأَسّي
فَلا وَاللَهِ لا أَنساكَ حَتّى
أُفارِقَ مُهجَتي وَيُشَقُّ رَمسي
فَقَد وَدَّعتُ يَومَ فِراقِ صَخرٍ
أَبي حَسّانَ لَذّاتي وَأُنسي
فَيا لَهفي عَلَيهِ وَلَهفَ أُمّي
أَيُصبِحُ في الضَريحِ وَفيهِ يُمسي
(منقول)
إن ما أردت أن أشير إليه وأنا أستحضر الخنساء صور كثيرة منها ما تعلق بالخنساء نفسها ومنها ما تعلق بشعرها أذكر هنا البعض منها. تمثل الخنساء في نظري رمزا للبطولة في تراثنا العربي والعربي الإسلامي لأنها قدمت إثنين من أخوييها: معاوية وصخر لفداء قبيلتها، والقبلية في فترة الجاهلية كانت تمثل ما يمكن أن نسميه اليوم بالدفاع عن الأقليم بالرغم من أن القبلية العربية كان لها مفهومين للأقليم: الأقليم المطاط (يذكر دولوز مقابله الفضاء المسطح) والإقليم الثابت (يذكر دولوز مقابله الفضاء المطروز). نستعمل المطاط من حيث أنها مترحلة والثابت هو الذي يشكل رمز تواجدها (إستقترارها)، ولذلك لم تتوان الخنساء في إظهار مكامن القوة حتى ولو تعلق الأمر بما تملكه خاصة حبها لصخر وهو ما يظهر في القصدتين: عيني جودا ولا تجمدا، يُؤرِّقني التذكُّر حينَ أمسي. ليس هذا فقط بل أن قصائدها في صخر وكذا معاوية تنم عن إحساس داخلي قوي ينطلق من عمق المحنة، محنة فقدان أعز ما تملك إنها الشهادة في سبيل الرسالة مهما اختلفت صورها. في جانب ثاني تمثل الخنساء في رأيي رمزا مهما لمعني البطولة وهي صورة يمكننا أن نبني حولها أو بها حلم البطولة والتضحية. حلم البطولة يتمثل في قصة الخنساء ذلك أنها ألفت الحزن أصبح الحزن مرادفا لمعني وجودها يسكنها، وهذه الحالة حينما يصل إليها الإنسان تقفز به من مستوي أول للوجود أي حب البقاء والحفاظ عليه إلى مستوي قبول التضحية وهو ما تقدمه الخنساء في مرحلتين: مرجلة الدفاع على القبلية ومرحلة الدفاع على العقيدة . تمثل الأول مع أخوييها معاوية وصخر، بينما الثاني في فلذات كبدها أولاده في معركة القادسية كما تذكر كتب التاريخ ولذلك لقبت بأم الشهداء. وتذكر كتب التاريخ صورة جميلة جدا لها في علاقتها بالرسول محمد عليه الصلاة والسلام حيث كانت تقول الشعر في حضرته ومع ذلك أحب الرسول أشعارها. إنه فضاء التسامح وحرية القول في حدود الاستعمال الجيد للخطاب داخل فضاء الإسلام.
وفي جانب أخر وليس أخير تشكل الخنساء في رأيي مجالا واسعا لمعني الفن الدرامي داخل تراثنا العربي والعربي الإسلامي يمكن أن يكون نواة لصناعة فنية تقدم أجمل صورة عن المرأة العربية. كما أن شعرها لم يكن ببعيد عن شخصيتها فلقد مثل أي شعرها أسلوب حياتها من التزام بالغرض والوفاء له دون جياد، حيث تجلي ذلك كما يذكره جملة من المختصين في الشعر العربي وشعر الخنساء خصوصا بأنها بقت وفية لمعاوية وصخر لدرجة أنها لم تقل شعرا في أولادها الأربع الذين أستشهد، وهذا الموقف يكشف مدي وفاء الخنساء. لا تخول قصائد الخنساء من الرثاء ولكن مع ذلك تشعر بأنها تنزاح نحو الوصف في القصيدة الواحدة نفسها لا لشيء سوي لأنها تجد نفسها بحاجة لتمثل صورة المعني بالرثاء لكي تشعر القارئ بسبب أو أسباب تعلقها بمن ترثي. إنه باختصار الوفاء المفعم بالجمالية الشاعرية.
أشكركم وإلى اللقاء في السبت القادم مع قصيدة أخري.
بن شرقي بن مزيان