23 Jun
23Jun


الأزمة ورهان التغيير


د.سرير أحمد بن موسى (المركز الجامعي عين تموشنت)

مخبر الفلسفة وتاريخ الزمن الحاضر. جامعة وهران2  


شهدت الجزائر في الآونة الأخيرة حراكا شعبيا واسعا، مطلبه الأول ضرورة التغيير والقطيعة مع كلّ أشكال الممارسات السابقة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ضرورة بناء دولة ديمقراطية حديثة تضمن مختلف الحقوق والحريات. وبعد مخاض امتدّ طيلة أشهر أشرفت فيها المؤسسة العسكرية على تسيير المرحلة، تقرّر تنظيم انتخابات رئاسية بتاريخ 12 ديسمبر2019، انتخابات راهن فيها المترشحون من خلال برامجهم على المطلب الشعبي المتمثّل في إحداث التغيير والقطيعة مع المرحلة السابقة، بما في ذلك برنامج المترشح الفائز الذي وعد هو الآخر بتحقيق هذا المطلب.

ما يلفت الانتباه في هذا الخطاب السياسي الصاعد هو الدعوة والإلحاح على ضرورة الأخلقة، أخلقة مختلف الأنشطة والممارسات، أخلقة الحياة السياسة، أخلقة الحياة الاقتصادية والاجتماعية.....وفي ذلك على ما أعتقد اعتراف واقرار بأن الأزمة التي نمرّ بها ليست في الحقيقة أزمة مادية بقدر ما هي أزمة قيمية/ أخلاقية. وإذا كانت أغلب الحلول المقترحة تتراوح بين الإجراءات والمقترحات السياسية والقانونية، فإننا نرى أن مثل هذه التدابير (السياسية والقانونية) وإن كانت ضرورية إلاّ أنها تبقى غير كافية ما لم تصحبها، أو بالأحرى تؤسّس لها، آليات إجرائية تستجيب للمطلب الأخلاقي، مادامت الأزمة في الأصل أزمة أخلاقية . السؤال المطروح إذن هو: على ماذا يجب أن نراهن لضمان تحقيق هذا المطلب في جزائر الغد ؟ ها هي شروط إمكان تخطّي هذا الواقع المتأزم باتجاه بناء دولة ديمقراطية حديثة، دولة مواطنة ؟     

في مقدمة "سؤال الأخلاق" يذهب المفكّر المغربي طه عبد الرحمن[1] إلى أن الحدّ الفاصل بين الإنسانية والبهيمية هو الأخلاقية لا العقلانية، فالأخلاقية هي الأصل الذي تتفرّع عليه كلّ صفات الإنسان من حيث هو كذلك. والعقلانية التي يتصف بها ينبغي أن تكون تابعة لهذا الأصل الأخلاقي. ومنه وجب التمييز بين العقلانية المجرّدة من "الأخلاقية" وهي مشتركة بين الإنسان والحيوان، والعقلانية المسدّدة بالأخلاقية وهي التي يختص بها الإنسان دون غيره. من هذا المنطلق، وبالنظر إلى الأصل الأخلاقي للإنسان، يكون من العبث البحث عن حلّ للأزمة التي نمرّ بها بالاحتكام إلى إجراءات العقلانية المجرّدة، وهي إجراءات استراتيجية وتقنية لا تراعي الأسس الأخلاقية. كيف نبرّر إذن استبعاد البعد الإيتيقي في التعاطي مع أزمتنا السياسية والاقتصادية والثقافية رغم اعتراف الجميع بأن الأزمة أزمة أخلاقية؟ 

تشكّل الثقافة مجموع الممارسات والمعارف والتقاليد والمعايير الخاصة بمجتمع معيّن، وهي بهذا المعنى إضافة للطبيعة[2] . لذلك وجب أن تعمل من خلال مختلف مؤسّساتها على تطوير المنظومة الأخلاقية التي تحكم سلوك الفرد والجماعة، وأي مشروع تغيير لا يراهن على مراجعة هذه المنظومة، من خلال تفعيل المشترك الأخلاقي الإنساني، سينتهي حتما بالفشل. إن الأزمة التي تمرّ بها البلاد اليوم وعلى رأسها أزمة الفساد، أزمة تضرب بجذورها في عمق أزمة الأزمات وهي الأزمة الأخلاقية. وعلى الخطاب الأخلاقي اليوم أن يتجاوز أسلوبه المبتذل المتباكي على انهيار الأخلاق في مجتمعنا، والمردّد باستمرار لبيت أحمد شوقي الشهير (وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت....فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا). علينا أن ننتقل من مستوى التشخيص والرثاء والإدانة إلى مستوى وضع الحلول وتفعيلها. لكن التحدّي الذي يواجهنا هو من أين نبدأ ؟ هل يجب أن نجاري المقترحات التي تراهن على تشريع قوانين ومواثيق أخلاقية فوقية تضبط مختلف المسؤوليات في المهن والنشاطات

 ( Déontologie)، أو يجب تبني استراتيجية تربوية وتعليمية واضحة، تعمل على تكوين وتهيئة الجيل الجديد بمنظومة قيم تغلّب الحياة العامة على السلوكات الخاصة، قيم تؤسس لدولة المواطنة ؟

إن أي تغيير فعلي منشود يجب أن يبدأ من الاستثمار في العنصر البشري، ونواة هذا الاستثمار هي المؤسسة التربوية والتعليمية التي تقع على عاتقها مسؤولية إعداد المواطن الصالح. فالأسرة والمدرسة لا تنقلان المعلومات والمعارف فقط، بل هما فضاء لغرس القيم والاعتزاز بالانتماء للوطن. على المؤسسة التعليمية اليوم أن تتجاوز تلك الأدوار التقليدية، المتمثلة في التعليم والتعلّم والتكوين والتأهيل إلى أدوار أخرى تؤهلها لمواكبة الحركية التي يعرفها المجتمع الجزائري، وتقديم إجابات ممكنة عنها من منظور الممارسة التربوية. على مناهجنا التربوية اليوم أن تستهدف تكوين يتشبّع فيه المتعلّم بقيم المواطنة والسلوك المدني (تعريفه بالتزاماته الوطنية، ومسؤولياته اتجاه نفسه وأسرته ومجتمعه، والتحلّي بقيم التسامح والتعايش، والمساهمة في الحياة الديمقراطية لوطنه) لأن مثل هذه القيم من شأنها أن تكسبه مناعة قوية، وتضمن تحقّق ما يسمّيه إدغار موران بلحظة "الفهم الإنساني"[3]. وهو ما يجنّب المجتمع كلّ ما من شأنه أن يهيّئ أسباب الانزلاقات الأخلاقية، وما قد يترتّب عنها من إمكانية تبنّي المقاربة الأمنية في التعاطي معها.


ولتحقيق وتجسيد هذه القيم لا بدّ من :

وضع برامج جديدة وتطوير الطرق البيداغوجية

تضافر جهود جميع الفاعلين والشركاء في الحقل التربوي (الأسرة، المدرسة، الجمعيات، الإدارة....)

تبنّي مشروع أخلاقي يستوحي منه النموذج التربوي البيداغوجي أهدافه (ما نريد أن يكونه المتعلّم)، مشروع لا يتناقض مع إنجازات العلوم الإنسانية معرفيا ومنهجيا. وهنا وجب التأكيد على ضرورة تطوير مختلف حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية تماشيا مع منجزات الحداثة لإمكان استثمار النتائج التي توفّرها في بناء هذا المشروع.

 


   



[1] - طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2000. ص 14.

[2] - تحيل كلمة الثقافة من حيث أصلها الاشتقاقي في اللغة الفرنسيةCulture المشتقة من الكلمة اللاتينية cultura على فعل العناية والاهتمام بالأرض، والانتباه الذي يعطى للفكر. إنها فعل زراعة الأرض، مجموع المعارف المكتسبة من طرف الفرد. وهي تحمل هنا دلالة الإضافة إلى الطبيعة الخارجية (الأرض) والطبيعة الداخلية (الاستعدادات الطبيعية للإنسان).

[3] - تناول إدغار موران في كتابه " المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل" أهم التحديات التي تواجه التربية حاليا ومستقبلا، ومن سمات تربية المستقبل يذكر: تنقية المعرفة- إصلاح طرق التفكير- تعليم الشرط الإنساني- تعليم الهوية الأرضية- تعليم الفهم الإنساني- تعليم لا يقينية المعرفة- تعليم أخلاق الجنس البشري. ورهان تعليم الفهم الإنساني هو تحقيق التضامن العقلي والأخلاقي للإنسانية.

   

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة