تمهيد:
لا شك أن الحديث عن أزمة الثقافة الحديثة في الغرب يحيلنا مباشرة إلى عدد كبير من الكتابات الفلسفية التي انبرت منذ البداية من أجل تشخيص مظاهر هذه الأزمة. يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر كتابات على غرار "أزمة العلوم الأوروبية" لهوسرل، أو "أزمة العالم الحديث" لرونييه غينون، لكن ما يعنينا تحديدا هو موقف كل من "حنا أرندت" و"بول ريكور"، الأولى من خلال محاولتها الموسومة "بأزمة الثقافة"[1] والثاني من خلال محاولته عن "أزمة الوعي التاريخي في أوروبا "[2].
أولا: "حنا أرندت" وأزمة ثقافة الاستهلاك:
ــ من المهم أن ننتبه إلى أن الكتاب الذي خصصته "أرندت" للحديث عن أزمة الثقافة حمل في أصله الإنغليزي عنوانا مثيرا هو "ما بين الماضي والمستقبل" (Between the past and futur)، ومصدر الإثارة فيه أنها لا تتحدث لا عن الزمن الماضي ولا عن الزمن المستقبلي ، بل عن ما تسميه في أول محاولة لها "بالفجوة بين الماضي والمستقبل"، إذ لم يعد الامر حسب "أرندت" محسوما فيما يتعلق بالشرط الإنساني الحديث، على صعيد الموقف من العالم. فالتفكير داخل الفجوة (La brèche) هو بمثابة إقرار بأن الإنسان الحديث صار مغتربا عن العالم لأن الإطار الفكري للتقاليد صار معرضا للخطر (أرندت، ص 75)، ومن ثم صارت حياة الإنسان الحديث مختزلة ضمن جدلية الطبيعة والمجتمع من حيث هما إطاران يكفلان استمرار الحياة الطبيعية، ولكن من غير أن يصلان به إلى تلك العلاقة الأصيلة بالعالم التي تفترض أول ما تفترض "إمكانية الوجود الحر "، ومن ثم إمكانية الانعتاق السياسي. فالعالم بنظر "أرندت" ليس مجرد وسط طبيعي أو مجال حيوي (Bio-sphère) ، وليس مجرد إطار إجتماعي تنتظم فيه القيم طبقا "لنظام الحاجات" الأساسية المفصول عن "مملكة الغايات" بلغة كانظ. لقد صارت الجدلية المهيمنة على الإنسان الحديث هي جدلية الطبيعة والمجتمع فقط، فالطبيعة تحتكر الإرادة، بينما يحتكر المجتمع الثقافة باعتبارها مجرد منتجات لا تصير قيما إلا في ارتباطاتها الاجتماعية. كل هذا يجعل مفهوم الأزمة الثقافية ينحل إلى "ضرب من الاحتكار الاجتماعي للثقافة ضد الانعتاق السياسي بمفهومه الواسع، أي ضد كل أشكال التصالح مع العالم، الأمر الذي يفرض النظر إلى الثقافة باعتبارها "إعتناء إنسانيا بالعالم" أكثر مما يحيل على مجرد "إرتباطات إجتماعية" بلغة ماركس .
ـــ إن التفكير ضمن زمانية "الفجوة" هو ضرب من التفكير في الأزمة ومن خلال الأزمة، وهو الأمر الذي حدا بالمترجم الفرنسي لكتاب "حنا أرندت" السابق الذكر (ما بين الماضي والمستقبل) إلى أن يعنونه "بأزمة الثقافة" (Crise de la culture)، وفي هذا دلالة على أن منشأ أزمة الثقافة عند "أرندت" تكمن في حدث القطيعة بين العالم الحديث وبين روح التقاليد أو التراث (Tradition) ، لذلك نجدها تقوم بتحليل معاني كثيرة تقع تحت وطأة التراث على غرار : التاريخ، السلطة، الحرية، السياسة والتربية، لتخلص في الأخير إلى أن الثقافة ، مأخوذة في بعدها الحديث في "أزمة"، وبما أنها أزمة مجتمع فلا يمكن فهمها إلا في ضوء علاقتها بالمجتمع. فما هو ضرب المجتمع الذي تأزمت فيه وبسببه الثقافة؟
ــ خضوع الثقافة الحديثة إلى عملية "الجمهرة" (Massification)، أو محاولة إضفاء الطابع الجماهيري على الثقافة تلازم مع انبثاق "المجتمع الجماهيري" (Société de masse) ، وهو تحول غير مسبوق في بنية المجتمع الغربي الحديث بعد أن ارتبطت الثقافة التقليدية طويلا بما يسمى بالمجتمع الصالح أو الفاضل (Bonne societé) ، غير أن وسم الثقافة بوسم الجماهيرية يبدو تناقضا في الألفاظ، إذ كيف تكون الثقافة جماهيرية إذا علمنا أن أساس المجتمع الجماهيري ذاته هو "الاستهلاك"، وهو بهذا المعنى مجتمع يدخل في علاقة غير أصيلة بالثقافة، لأنه يتعاطى مع الموضوع الثقافي باعتباره منتوجا قابلا للاستهلاك (Objet consommable) ، ومن ثم يخضع لمنطق الاستهلاك نفسه، والمحكوم بقيمتي الاستعمال و الاستبدال. في حين أن هذه النظرة تطرح مشكلا حقيقيا بالنسبة للثقافة نفسها، ذلك بأن ربط الثقافة بعملية الاستهلاك وهو بمثابة ارتهان للفعل الثقافي بما ليس هو ذاته في الحقيقة، أي إقحامه ضمن صيرورة تلبية الحاجات المتزايدة باستمرار على حساب "القيمة الاستطيقية" للمنتوج الثقافي منظورا إليه في ذاته ، وأن الاعتقاد بأن المجتمع الاستهلاكي يصبح أكثر "تثقفا بمرور الزمن أو بفعل التربية هو بنظر "أرندت" خطأ جسيم لأن موقف الاستهلاك يحمل الخراب والدمار لكل ما يمكن أن يلمسه ( نفسه، ص ).
ــ إن مجتمع الإستهلاك هو مجتمع يقرن بين الرفاهية والتسلية، ومن ثم هو مجتمع يتغذى من موضوعات العالم الثقافي بغرض تمديد التسلية وتمجيد اللهو، والنتيجة ليست "ثقافة جماهيرية" وإنما "لهو جماهيري".
ــ فقدت الثقافة الحديثة ــ حين اقترنت بالمجتمع الجماهيري ـــ دلالتها الاجتماعية والسياسية، حيث صارت مختزلة في قيمها النفعية الاستعمالية المقترنة في الغالب بهيمنة الموضة والحظوة الاجتماعية ، ومن ثم تعاظم شخصية "المثقف الزائف" أو "دعي الثقافة" (Philistin)
ـــ إن الخروج من أزمة الثقافة يتطلب، حسب "أرندت"، الدخول من جديد في "علاقة ملائمة للثقافة"، وهذه العلاقة تبدأ باستعادة طرح مكانة الفن في أفق السياسة ، إذ الفن والسياسة كلاهما مجال لممارسة المقدرة على الحكم بحرية، وأن "الذوق" الذي يحكم به الفنان على عمله هو الشكل الآخر لذات الحكم الذي يصير به الفعل ممكنا. إن المقدرة على الحكم، كما نظر لها كانط في نقده الثالث، هي السبيل الوحيد لإحداث مصالحة مع العالم، ومن ثم إمكانية تقاسمه الهنا والآن، فالبشر فانون، بينما العالم باق. فما الذي يشهد على خلوده إن لم يشهد بذلك الفنان من خلال عمله الفني، وإن لم يشهد بذلك السياسي من خلال الاعتناء بشكل إقامته في العالم .
ــ نخلص إلى القول بأن أزمة الثقافة عند أرندت وليدة عملية تاريخية ارتبطت ببنية المجتمع الجماهيري الحديث، أو ما اصطلحت عليه بعملية "الجمهرة" (Massification de la culture) وأن المخرج من هذه الأزمة هو إعادة إستملاك الثقافة وفق منظور "الأسطقة"(Esthétisation de la culture)، وهو أمر لا سبيل إليه إلا بإعادة طرح العلاقة بين الفن والسياسة طرحا من شأنه أن يحافظ على الدلالة الأصلية لمعنى الثقافة اللاتيني ، ومن ثم للعلاقة الأصيلة بالعالم، أكثر مما هي مجرد علاقة بالطبيعة والمجتمع. فالثقافة كعناية بالأرض هي في مدلولها الإنساني البعيد عناية بمكان الإقامة الملائمة للإنسان ألا وهو "العالم".
ثانيا: "بول ريكور" وأزمة ثقافة العصر :
ــ يشخص "ريكور" أزمة ثقافة هذا العصر قائلا: " إن عصرنا يتميز بانسحاب أفق التوقع وتضييق فضاء التجربة معا"، مما يعني أولا: الاكتفاء بفضاء التجربة كفضاء "محدد" يختزل فيه الموروث الثقافي إلى مجرد مستودع مترسب ومتحجر، يميل البعض إلى تكثيفه وإعلاءه، في حين يميل البعض الآخر إلى ستره ودفنه، وفي كلتا الحالتين نكون أمام أزمة ذاكرة وأزمة تراث. الأولى بسبب فرط التذكر، والثانية بسبب فرط النسيان. و ثانيا: يصحب أزمة الذاكرة والتراث أزمة مماثلة على صعيد "أفق التوقع"، حيث يفرغ أفق التوقع من كل مضمون، ومن كل هدف جدير بالمتابعة، ومن ثم اللجوء إلى عالم اليوتوبيات الخالصة التي تحطم كل إرادة في التغيير والإصلاح.
ــ إن هذا الانحراف المزدوج في العلاقة بالماضي والمستقبل ينعكس بدوره على الحاضر، منظورا إليه، لا كحضور، وإنما كقدرة على المبادرة، حيث يتم إفقار هذا الحاضر ، الأمر الذي يؤدي بالأفراد إلى التقاعس و"التقاعد المسبق عن الحياة النشطة ، والركون إلى حالة من الحيادية واللامبالاة الفرديتين بصدد كل التزام جماعي أو مسؤولية مواطنية، ومن ثم إلى عدم الالتفاف حول إرادة العيش سويا. إنه انحراف يعرب عن الهشاشة القصوى التي يمكن أن تلحق بالرباط الاجتماعي"[3].
ـــ في ظل أزمة الوعي هذه ينصح "ريكور" بتكاملية عمليتي التجديد والتقليد ، و من ثم القبول بالتوغل في الماضي بغية معالجة الثقافة الموروثة بوصفها مصادر حية أكثر مما هي مجرد مستودعات، وذلك حتى ننمي طاقتنا باتجاه المستقبل الذي صار مهددا اليوم بكوارث كونية كبرى لا سبيل لتجاوزها إلا بفكرة التكاملية هذه.
ـــ في هذا المعنى بالذات يتحدث "ريكور" عن البعد اليوتوبي للمستقبل، مع إدراك واضح للنواحي التي تقلل من شأن هذا البعد، خاصة ما تعلق بالنواحي العملية الممكنة. ومع ذلك، كما أن الفرد لا يستطيع العيش بدون حلم، فكذلك الشعوب لا تستطيع أن تعيش بدون يوتوبيا، بل إن فكرة أفق التوقع ذاتها توحي على نحو ما بفكرة اليوتوبيا، طالما أن الأفق هو ما يظل عصيا على البلوغ. "لكن الأهم، كما يقول "ريكور"، هو أن تكون هذه اليوتوبيات مسؤولة, تضع في حسبانها ما هو معقول ومرغوب، و تشكل كلا متناعما ، ليس فقط مع مقاومات الواقع المؤسف لها، بل مع السبل التي ظلت مفتوحة وقابلة لأن تطرق بواسطة التجربة التاريخية"[4].
[1]- Hannah Arendt, La crise de la culture : Huit exercices de pensée politique, trad.sous la direction de Patrick Lévy, Gallimard,1972 .
[2]- Paul Ricoeur : « « La crise de la conscience historique et l’Europe », dans : Etica eo Futuro da Democracia, Lisboa, Ediçoes Colibri/ S.P.F., 1998
[3] -Paul Ricoeur, « La crise de la conscience historique et l’Europe », op.cit, p.30